عندما ضرب جدعون بالبوق اجتمع ٣٢ ألف، ولكن الحماس الجسدي والتأثُّر بنشاط أحد الخدام المكرَّسين اللامعين شيء، وامتلاك الصفات الأدبية لهذا الخادم شيء آخر. الفرق كبير بين السير وراء الخدام والسير مع الله بشكل مباشر. كثيرون فشلوا بعد فترة وتراجعوا لأنهم لم يتدربوا في محضر الله، ولم يكونوا مستعدّين لتحمل مشقات الخدمة.
بَكَّر جدعون وكل الشعب ونزلوا على “عين حرود”، ومعناها “ينبوع الارتعاد”. إن التبكير عادة حسنة في كل خادم أمين، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك (انظر: تكوين٢٢؛ خروج١٦؛ ١صموئيل١٧؛ مزمور٦٣؛ أمثال٨؛ نشيد٧؛ مرقس١: ٣٥). وعين حرود تشير إلى الروح القدس، “روح مخافة الرب”. وقد قال الرب: «وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي» (إشعياء٦٦: ٢). الشعب كان كثيرًا، وكانوا معرَّضين أن ينسبوا النصرة لأنفسهم؛ ولهذا كان يجب أن يجتازوا في امتحان مزدوج.
الامتحان الأول: من كان خائفًا فليرجع. وهذا المبدأ نراه في الناموس قبل دخول الشعب أرض كنعان (تثنية٢٠: ٨). الخوف مرجعه عدم الإيمان والشك في صلاح الله وقدرته، وهذا سيًضعِف عزيمة الباقين، وهو مرض معدٍ وينتشر بسرعة. وفي حالة رجال جدعون، الخوف أرجع ٢٢ ألف، وبقي ١٠ آلاف. الإنسان يحب الكثرة والأعداد الكبيرة، ويربط نفسه بالكيانات الكبيرة والقوية، لكن الله يعمل مع البقية ويشجِّعها، وليس عند الرب مانع أن يخلّص بالقليل أو الكثير. الله يهمه النوعية وليس الكمية.
الامتحان الثاني: أخذهم عند الماء لينقِّيهم هناك. وترك كل واحد يشرب بتلقائية على طبيعته، ولم يكن أحد يدري، ولا جدعون نفسه ما سيترتب على طريقة الشرب. البعض جثا على ركبتيه وشرب، والبعض الآخر أخذ كمية قليلة بيده وولغ بلسانه كما يلغ الكلب. طريقة الشرب تعكس الحالة لكل شخص وتُعبِّر عن نمط حياته واهتماماته. الأكثرية ركعوا للشرب، وكان ذلك عندهم أهم من الحرب. ٣٠٠ فقط من العشرة آلاف هم الذين قنعوا بالقليل وأخذوا بأيدهم إلى أفواههم، وركضوا إلى الحرب. والرب اختار هؤلاء فقط، وهم الذين كانوا مؤهلين للحرب. وماذا يعني هذا الامتحان الثاني؟ إنه يعني الاستعداد للتخلي عن الذات وإرضائها والركوع أمام رغباتها. إنه يعني ضبط النفس في كل شيء، والقناعة بالقليل من المسرات الأرضية، حتى الأمور المشروعة. الذين ركعوا للشرب يمثلون قطاعًا كبيرًا من المؤمنين الذين يعيشون لأجل أنفسهم ويدللون رغباتهم، ولم يتعلموا إماتة الذات. إنهم يبحثون عن أكبر قدر من الترفيه وإنعاش الطبيعة البشرية ويفتكرون في الأرضيات، ناسين أنهم شركاء الدعوة السماوية. الكتاب يعلمنا أن «كُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (١كورنثوس٩: ٢٤) وأمامه الهدف الأسمى. ويُحرَّض العبرانيين: «فَلْنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ»، الراحة المستقبلة في المجد، حتى لو تعبنا هنا لكي نحفظ أنفسنا في الطريق الضيق. إن «الْوَقْتُ مُنْذُ الآنَ مُقَصَّرٌ» (١كورنثوس٧: ٢٩)، وعلينا أن نستعمل هذا العالم مجرَّد استعمال مؤقَّت في الرحلة القصيرة. أن يأخذ بيده الماء فهذا يعني أن يتحكم فيما يستعمله، ولا يترك العنان لرغباته لتتحكّم فيه. إنه في حالة حرب ويقول لنفسه: «أهو وقت؟!»
٩٧٪ فشلوا في الامتحان، و٣٠٠ فقط من العشرة آلاف هم الذين نجحوا، وربما كان ذلك مُحبطًا لجدعون. وماذا عن تسليح هؤلاء في الحرب لمواجهة المديانيين؟ لا نقرأ أنه كان معهم سيف أو رمح أو ترس، بل جرار فارغة ومصابيح بداخلها، وفي اليد الأخرى أبواق. ودائمًا طريق الإيمان يبدو غريبًا وغير منطقي. الحرب للرب وهو الذي سيخلّص. الإيمان يدرك أن جيش المديانيين لو كان عددهم مليون فهم مليون صفر، ورجال جدعون عددهم ٣٠٠ وهم أيضًا ٣٠٠ صفر، لا تفرق ولا يهم، فالكل باطل كالعدم. لكن رجال جدعون معهم واحد هو الله وكأنهم ٣٠٠ صفر وراءهم واحد وهو عدد لا يُحصى، أما المليون صفر (رجال المديانيين) فليس معهم الواحد. الإيمان يعوّل على الله ويتكل عليه.
الرب أراد أن يشجِّع جدعون، الذي ارتخت يده عندما تقلَّص العدد، بعلامة أخرى دون أن يطلب. فذهب إلى طرف محلة المديانيين وسمع واحدًا يقصّ حلمه على صاحبه، وكان الحلم غريبًا، فإذا رغيف شعير يتدحرج في محلة المديانيين، فضرب الخيمة وقَلَبها، وكان تفسير صاحبه أغرب فقال: ما هذا إلا سيف جدعون ابن يوآش، قد دفع الله المديانيين ليده. وفي هذا نرى سلطان الله على الأحداث، فلا شيء يحدث بالصدفة في عالم تحت السيطرة الإلهية. وكان على جدعون أن يعرف أنه مجرد رغيف شعير ليس أكثر لئلا يرتفع قلبه. جدعون لما سمع سجد للرب. وبكل تواضع قال لرجاله: «قَدْ دَفَعَ إِلَى يَدِكُمْ جَيْشَ الْمِدْيَانِيِّينَ». ولم ينسب شيئًّا لنفسه. قسّم الجيش إلى ثلاث فرق وكانوا في اتحاد وانسجام، يعملون مثله ويشخصون إليه. ضربوا بالأبواق، وكسروا الجرار، وأمسكوا المصابيح. كسر الجرة يعني فقدان الثقة في الذات، فالجرار تُمثِّل الرجال الذين يحملونها، فنحن أوان خزفية. كان المطلوب هو ترك الجرار تسقط فتنكسر، ويظهر نور المصباح. هذا يعني أن أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ. أما البوق فيعني الافتخار بالرب. نحن نفتخر في المسيح ولا نتكل على الجسد (فيلبي٣:٣).
الرب تدخَّل وجعل سيف كل واحد على صاحبه، فهرب كل جيش المديانيين والرب أزعجهم. واجتمع رجال أفرايم وأخذوا المياه من المديانيين، وأمسكوا أميري مديان، غرابًا وذئبًا، وقتلوا غرابًا على صخرة غراب، وذئبًا في معصرة ذئب. وغراب يمثل الفساد والنجاسة، أما ذئب فيمثل القسوة والشراسة. وهذه خصائص الطبيعة البشرية التي نهايتها في الصليب (الصخرة والمعصرة). فإن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطَل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد للخطية (رومية٦:٦). والذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات.