حكاية غصن 3


ما زلنا - عزيزي القارئ - نتتبع حكاية الغصن الجميل “يوسف”. رأينا في العددين السابقين كيف كان الموت يعمل فيه لتخرج منه أحلى الثمار، وما كان ممكنًا له أن يظل نضرًا وثمرًا ما لم يكن قد غُرس على عين مُروية، وتحدَّثنا أنه استطاع أن يتسلق الحواجز التي واجهته بكل محبة أولاً ومهارة ثانيًا، لكنه كان يحتاج كذلك لأمرين آخرين هما:

ثالثًا: مرونة

وهي القدرة على التكيف مع الظروف، ولا سيما المعاكِسة منها، عندما تعلو بنا الحياة أو عندما تهوي.

النباتات المتسلقة لها جذوع وفروع تمتد في أكثر من اتجاه، ليس لأعلى فقط كمعظم النباتات، لكنها تمتد أحيانًا بشكل أفقي، أحيانا لأعلى ربما لأسفل. يتغير الاتجاه لكن النمو مستمر.

عندما تتغيَّر الظروف نحاول غالبًا أن نغيِّرها لتعود لما كانت عليه، فنحاول جاهدين للتخلص مما يعيقنا. وقد يكون قصد الله أن يغيرنا نحن لا ظروفنا.

تغيَّرت حياة يوسف ما بين قمم وقيعان، لكن لا تراه محاولاً تغيير ظروفه، بل بالحري مستسلمًا لمشيئة الله منتظرًا كلمته الأخيرة.

نقرأ مرة واحدة فقط في سيرته أنه طلب معونة إنسان ليتخلص من الضيق (تكوين٤٠: ١٤-١٥)، ولم يسمح الله للمعونة أن تأتي من إنسان؛ لتظل معونته من عند الرب صانع السماء والأرض (مزمور١٢١: ٢).

عندما يأتي الضيق، قد يقودنا الرب منه إلى «إِلَى رَحْبٍ لاَ حَصْرَ فِيهِ» (أيوب٣٦: ١٦)، وقد يعمل شيئا آخر وهو أن «رَحَّبْتَ لِي» مزمور٤: ١ أو “يرحبنا نحن” أو “يعطينا فسحة وراحة” – كما في إحدى الترجمات.

الضيق له فوائد كثيرة، من أهمها أن يعلمنا الصبر والصبر لازم للإثمار، «هُوَذَا الْفَّلاَحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ، مُتَأَنِّيًا عَلَيْهِ» (يعقوب٥: ٧). لم ينس فقط تعبه، بل أثمر في أرض المذلة. وهذا ما عبّر عنه في اسمي ابنيه (تكوين٤١: ٥٠-٥٢) «وَوُلِدَ لِيُوسُفَ ابْنَانِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ سَنَةُ الْجُوعِ، وَلَدَتْهُمَا لَهُ أَسْنَاتُ بِنْتُ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ أُونَ. وَدَعَا يُوسُفُ اسْمَ الْبِكْرِ “مَنَسَّى” قَائِلاً: “لأَنَّ اللهَ أَنْسَانِي كُلَّ تَعَبِي وَكُلَّ بَيْتِ أَبِي”. وَدَعَا اسْمَ الثاني “أَفْرَايِمَ” قَائِلاً: “لأَنَّ اللهَ جَعَلَنِي مُثْمِرًا فِي أَرْضِ مَذَلَّتِي”».

رابعًا: مثابرة

المثابرة هو أن تظل محتفظًا بمستوى عالٍ من الأداء برغم تقدّم الوقت أو وجود معوقات، وهذا ناتج عن وجود هدف محدّد تسعى لتحقيقه.

كان أمام يوناثان في ١صموئيل١٤ هدفًا، وهو أن يحارب أعداء شعب الله، بالرغم من كل الصعوبات التي تمثَّلت في عدم وجود أسلحة مع الشعب والروح الانهزامية التي سادتهم ورعونة شاول أبيه في قيادة الشعب، لكنه في شجاعة الإيمان قرَّر أن يعبر إلى مخيم أعدائه ليحاربهم هو وغلامه فقط! ومما زاد الأمر صعوبة وجود صخرتين على جانبي المعبر؟! كان وجود هاتين الصخرتين كفيلاً أن يثني عزيمة الرجلين ويصدّ شجاعتهما. لكن هل تعرف ماذا فعل يوناثان وحامل سلاحه؟ لقد تسلق الصخرة «فَصَعِدَ يُونَاثَانُ عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ» (١صموئيل١٤: ١٣). يا للمثابرة! ولا يمكن أن نغفل أيضًا دور رفيقه، حامل السلاح، الذي أعانه على التسلق بالتشجيع ولازمه قائلاً «هأَنَذَا مَعَكَ حَسَبَ قَلْبِكَ» (ع٧). فقي يومٍ نحتاج إلى من يشجعنا ويلازمنا في تسلق الصعوبات، وفي يوم آخر يجب علينا أن نفعل نحن ذلك مع الآخرين في صعوباتهم.

المثابرة لتحقيق الهدف تحتاج لإيمان، إيمان بالله الذي يحقِّق المستحيل وإيمان بالهدف الذي نسعى له.

لم يكن عرش مصر هدف يوسف في يوم من الأيام، لم يكن لديه هذا الطموح؛ لكن من بداية حياته كان لديه أحلام، لم يسعَ لتحقيقها بل كان كل مسعاه أن يكون في مشيئة الله وحقَّق الله له الأحلام!

الحياة الجميلة هي التي لها حلم، لكن لنتعلم من قصة يوسف أن نترك الله يكوِّن لنا الحلم، وننتظر توقيته وطريقته. وليكن الهدف اليومي هو اختبار مشيئة الله في الزمان والمكان اللذين أوجدنا فيهما. ولو بدا لنا أن أحلامنا تبخَّرت أمام حرارة وقسوة ظروفنا، لنيقن أن الأمر ليس كذلك لدى الله. وإن اكتنفنا الظلام، لنتذكر قول الكتاب عن الله في مزمور١٢: ١٣٩ «الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هكَذَا النُّورُ فالظلمة لا تظلم لدية».

أنا شخصيا لا أعرف شيئًا يقي ضد الإحباط مثل وضع النظر على المسيح «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْل، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هذِهِ لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ» (عبرانين١٢: ١-٣).

إن كنت صديقي تشتاق لهذا الصنف من الحياة، تأكّد أولا من أنك “غصن في المسيح”، أي بالولادة الجديدة من الله والإيمان بالمسيح نلت عطية الحياة الأبدية وأصبحت حياة المسيح تسري في كيانك. بدون علاقة حقيقية شخصية مع المسيح قد تكون «كالغصن»، في شكل الأغصان، لكن بلا حياة أو ثمر، والمصير الخطير «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ» (يوحنا١٥: ٦).

وإن كنت فيه، فلكي تثمر يجب أن يتم فيك القول «اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ» (يوحنا١٥: ٤) لتأتي بثمر (ع١) وثمر أكثر (ع١، ٨) ويدوم ثمرك (ع١٦).

لا شك أن حكاية يوسف ملهمة، وهي صورة جميلة لقصه أجمل هي قصة الرب يسوع المسيح، وأجمل ما في الحكاية أننا كمؤمنين ليس لنا فقط أن نعرف القصة، لكن لنا حياته فينا لنتغير إلى صورته (٢كورنثوس٣: ١٨).