مريم فتاة يهودية، من قرية بيت عنيا، أخت مرثا ولعازر، وتأملنا في المرة السابقة في صمتها أمام شكاية الآخرين، وأيضًا في اختيارها النصيب الصالح، وذلك بجلوسها عند قدمي الرب، ونستكمل الآن الدراسة:
مريم محبوبة من الرب ومن الكثيرين
كان الرب يسوع يحب هذه العائلة كثيرًا، ويستريح عند زيارتهم، ويجد ترحابًا ينعشه وسط رفض اليهود له, وكان كل فرد في هذه العائلة المحبوبة يشعر بمحبة الرب له شخصيًا، إذ مكتوب: «وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ» (يوحنا١١: ٥)، مع ملاحظة أن محبة الرب لنا لا تعني إعفائنا من الألم أو المرض أو حتى الموت، لئلا يظن أحد المؤمنين إذا أُصيب بمرض ما أو تجربة أن الرب لا يحبه، لكن عليه أن يفحص نفسه ليعرف سبب هذا المرض، هل هو تأديب على خطية ما (عبرانيين١٢: ٦)، أو نتيجة إجهاد زائد عن الطاقة حتى في مجال الخدمة مثل أبفرودتس (فيلبي٢: ٢٧-٣٠)، أو للوقاية من الإرتفاع مثل بولس الرسول الذي أُعطي شوكة في الجسد (٢كورنثوس١٢: ٧)، أو لإمتحان الإيمان (يعقوب١: ٢، ٣).
لم تكن مريم محبوبة من الرب فقط، بل أيضًا من الكثيرين، والدليل على ذلك أنه عندما مات لعازر، جاء كثير من اليهود ليعزُّونها (يوحنا١١: ٤٥)، وعندما خرجت من البيت مسرعة لتقابل الرب ظنوا أنها تذهب إلى القبر لتبكي هناك فتبعوها (يوحنا١١: ٢٩-٣٢).
مريم تثق في الرب أنه الطبيب الشافي
عندما مرض لعازر، أظهرت مرثا ومريم محبة له واهتمامًا صادقًا لأن «الأَخُ لِلشِّدَّةِ يُولَدُ» (أمثال١٧: ١٧). أما عندما اشتد مرضه، شعرتا بالخطر على حياته، وأنه ربما يموت، فجاءتا للرب مباشرة، لأنه الملجأ الحصين في زمن الضيق، ومعين لكل المجرَّبين، وجميل أن نلجأ للرب في ضيقاتنا وأمراضنا وتجاربنا، وهو يسمع دائمًا لنا، لكنه يستجيب في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة.
كانت مريم تثق في محبة المسيح لهم، وفي حنانه الكثير، وفي قدرته العظيمة على شفاء كل الأمراض، فقد شفى الآلاف، سواء بلمسة أو بكلمة أو من على بعد (يوحنا٤: ٥٠)، وكانت تؤمن أنه عند حضوره سوف يمنع موت أخيها ويشفيه.
فوصلت الرسالة إلى الرب: «يَاسَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يوحنا١١: ٣)، والجميل أن الرسالة المرسَلة للرب كانت مختصرة تحميل مزيجًا من الثقة والبساطة، ولم تكن تحمل توجيهًا معينًا، لكن طلب للنجدة في صورة خبر، وهذا هو التسليم الكامل لمشيئته، «سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي» (مزمور٣٧: ٥). ونلاحظ كلمة: «يا سيد» والتي نرى فيها اعترافًا بلاهوته وسلطانه.
فلما سمع الرب رسالة الأختين، قال: «هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِهِ» (يوحنا١١: ٤)، أي لم يكن هدف هذا المرض هو الموت، مع إن لعازر مات ودُفن فعلاً، لكن إظهار مجد الله، إي إستعلان قوته وسلطانه من خلال مشهد القيامة، وأيضًا ليتمجد ابن الله به، أي إعلان لاهوت المسيح.
نحن دائمًا في التجربة ننظر لأسفل أقدامنا، ونريد حلاً سريعًا للضيقة أو الألم أوالمرض أوالتجربة التي نمرّ بها، لكن رب المجد يسوع ينظر إلى الأمام، أي لمجد الله الذي سوف يُستعلن من مرورنا في هذه التجربة، وبالرغم من ذلك فإن قلبه المحب معنا ويشعر بآلامنا (إشعياء٦٣: ٩).
بعد أن سمع الرب بمرض لعازر، «مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ». مع أن الرب في مشاهد أخرى تدخل بسرعة سواء للإنقاذ أو للشفاء، فعندما صرخ بطرس للرب وهو يغرق نجده «فِي الْحَالِ مَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ» (متى١٤: ٣١)، وعندما لمسته المرأة نازفة الدم «فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ» (مرقس٥: ٢٩). لكن في هذا الموقف نجده يمكث يومين، لأنه - تبارك اسمه - يتحرك بحسب مشيئة أبيه، فلا إضطرام عواطفه يدفعه ليذهب مسرعًا لبيت عنيا، ولا الخوف من اليهود في اليهوديه لمحاولة رجمه يمنعه من الذهاب إلى هناك (يوحنا١١: ٨)، لكنه يذهب في التوقيت المناسب لمجد الله. ليتنا نتعلم من الرب يسوع أن نتحرك بحسب مشيئته الصالحة وليس بحسب إستحساناتنا البشرية.
كان الرب في بيت عبرة في عبر الأردن عندما وصلته الرسالة من الأختين، حينئذ مكث يومين، ثم ذهب لبيت عنيا، فكان لعازر قد مات ودفن من أربعة أيام، وإذا كانت المسافة من بيت عبرة إلى بيت عنيا حوالي ٣٢ كم أي تُقطع في يوم واحد سيرًا على الأقدام، فهذا معناه أن لعازر مات في نفس اليوم الذي أرسلت فيه الأختان الرسالة للرب ودُفن. ففي اليوم الأول أرسلت الأختان الرسول للرب، ثم مكث الرب يومين، وفي اليوم الرابع تحرك الرب لبيت عنيا، فكان لعازر قد دفن في القبر وله أربعة أيام.
مريم تسرع لملاقاة الرب
جاء الرب لبيت عنيا، حيث وجد أن لعازر قد صار له أربعة أيام في القبر. فلما سمعث مرثا أن يسوع آتٍ، لآقته خارج القرية، وأما مريم فاستمرَّت جالسة في البيت، ربما لأنها لم تسمع بخبر مجيء الرب إلى القرية. فتكلّمت مرثا مع الرب، لكنها لم تستوعب أقواله السامية بأنه القيامة والحياة، وأن لعازر سيقوم، فمضت ودعت أختها سرًا قائلة: «الْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ»، مع أن الوحي لم يذكر أن الرب استدعاها، لكن أقوال الرب التي سمت فوق تفكيرها أعتبرتها دعوة لمريم بالحضور، ولأنها تلميذته فتستطيع استيعاب أقواله.
فلما سمعت مريم قامت سريعًا وجاءت إليه، تركت المعزّين في البيت، وأسرعت لملاقاة سيدها. كان الرب غاليًا عليها كثيرًا، وكانت منتظرة مجيئه، وتأثرت من رؤية الرب أكثر من مرثا، إذ كانت عواطفها حارة، فخرت عند رجليه، ثم قالت نفس العبارة التي قالتها أختها: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!»، جاءت لتطرح حزنها وألمها وهمها عند رجليه.
كما جاءت مريم مسرعة لملاقاة الرب طارحة حزنها عند رجليه، جاء زكا العشار مسرعًا، ملبيًا دعوة الرب له، طارحًا خطاياه الكثيرة (لوقا١٩).
يا ليتنا نتعلم كمؤمنين عندما نمرّ بتجربة أو ألم، نذهب مباشرة للرب يسوع الكاهن العظيم، الذي يرثي ويشجع ويعين ويسند، وكل نفس بعيدة تأتي للرب يسوع مسرعة لتتمتع بالخلاص والحياة الأبدية.