لا زلنا أمام السيد والمعلم لنتابع دروسه العملية في بيانات يجريها بنفسه. وأمثلة حية يعلمنا فيها كيف تكون حياة تابعيه. هي ضد طبيعة البشر. ولكن من آمن بالمسيح صار يحمل طبيعة جديدة بها يستطيع أن يعيش كعبد تعلّم من سيده وكتلميذ من معلمه. والآن هيا لنرى هذا البيان.
غسل الأرجل
«قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا. فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: "أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ... لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ» (يوحنا١٣: ٤–١٧).
مقدمة: انجيل يوحنا هو انجيل ابن الله. في لاهوته وأزليته. فهو الكلمة والنور الحقيقي ووحيد الآب. وهذا الأصحاح (أصحاح١٣) هو بداية حديث الرب الوداعي (أصحاحات١٣-١٧)، ويبدأ بذِكر مقامه، إذ حان الوقت لصعوده إلى السماء، والآب قد دفع كل شيء إلى يديه. وأيضًا: ها خطية يهوذا ستخرج إلى حيّز التنفيذ، والتلاميذ سيتركونه، وبطرس سينكره. والصليب على بعد خطوات. ومع هذا لم يتحوَّل قلبه عن تلاميذه، وعن محبته لهم، لكننا نقرأ هنا عن قمة التواضع والاتضاع. نقرأ عن تنازله وكيف أخذ مقام العبد حرفيًا، وصار يخدم حتى وصل لأرجل مجموعة من الصيادين ليغسلها! أما عن التلاميذ، ففي حضرة الرب، وفي نفس الجلسة، يكشف الروح القدس ما فيهم «وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضًا مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ». فكيف يقوم شخص يظن أنه الأكبر والأعظم ويغسل أرجل إخوته؟! وها السيد يقدِّم البيان العملي ثم يتبعه بالدرس النظري قائلًا «لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ: أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدُمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدُمُ» (لوقا٢٢: ٢٤-٢٨).
الغسل: كان يتم قبل تناول الطعام، وبعد العودة من السفر. وهذا من عمل العبيد. وقد ذُكر مرارًا في الكتاب مع الفارق: فإبراهيم تكلم مع ضيوفه عن الماء وغسل أرجلهم ولم يقُم بذلك. ويوسف لم يغسل أرجل إخوته ولا أعطاهم الماء بل الذي على البيت (تكوين١٨، ٤٣). أيضًا كان الكهنة يغسلون أيديهم وأرجلهم كلّما تقدّموا للخدمة (خروج٣٠: ١٧-٢١).
البيان:
١- لم يقل الكتاب غسل أرجل التلاميذ بل «وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ»، وكأنه بدأ ولم يتوقف. فللآن هو يخدمنا - له المجد. لأننا نحتاج دائمًا للتطهير «مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ».
٢- المحبة الكاملة: أحب خاصته الذين في العالم (تغطّي كل الماضي)، أحبهم (تغطي كل الحاضر)، إلى المنتهى (تغطي كل المستقبل). حقًا ليس لأحد حب أعظم من هذا. فمحبته لم تتغير رغم سلطانه ومجده، ورغم الخيانة والإنكار، ورغم الآلام والأهوال. لم تتغير لمن هاجموا مريم عندما دهنت رأسه بالطيب. وها هو يغسل أرجلهم بالماء!
٣- ظن البعض أن المسيح يقصد حرفية هذا الفعل، لذا صارت عندهم كفريضة يمارسونها سنويًا في احتفال مليء بمظاهر العظمة والأبهة، وبعيدًا تمامًا عمّا يقصده الرب من هذا.
الدرس:
١- الاغتسال والغسل: قال الرب لبطرس «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ»، أي أن التطهير التام والتبرير الكامل قد تم بواسطة دم المسيح أمام الله. وهكذا أحضرنا إلى علاقة سامية مع الآب وهذه العلاقة لا تحتمل أي تلوث يحدث لنا نتيجة سيرنا في عالم الخطية هذا. أما الغسل أو التطهير العملي فلأجل السلوك الحسن المرضي للرب، وهذا يتم بتخصيص كلمة الله لنفوسنا وقلوبنا.
٢- حتى كما صنعت تصنعون:
إن كان المعلم والسيد، والأعلى والأعظم. يخدم هكذا فبالأحرى نحن يجب أن نخدم بعض «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا» (غلاطية٦: ١)؛ فكلنا معرضين أن نعثر ونسقط وبالتالي نحتاج إلى خدمة التنقية والإنذار والتنبيه.
- من يقوم بهذا يجب أن يتحلّى بالآتي: بذات نوع محبة المسيح لنا والتي هي إلى المنتهى والتي تستر كثرة من الخطايا. فلا يحتدّ عليه أخيه، أو ينتقده أو يظن فيه السوء. بل يترفَّق ويتأنى إلى أن يتم العلاج. وبالتواضع والوداعة: متمثلين بالسيد الرب الذي قال «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب». فلا نعالج أحد بروح الكبرياء، بل نحسب أننا لو كنا مكانهم لفعلنا مثلهم وأكثر.
- وبذات الماء: أي كلمة الله. فهي التي تكشف الحالة وتقدِّم العلاج وتزيل الآثار.
- وبذات المنشفة: أي عدم ترك آثار للخطية أو الزلة عالقة بأخي. وأيضًا لا أنشرها وأحكي بها أمام الآخرين.
- ومن الجهة الأخرى لا نغضب من إخوتنا حين يقومون بهذه الخدمة ونرفض نصائحهم. ولنا أمثلة لهذا. فداود الملك لم يغضب من ناثان النبي عندما وبّخه على خطيته، بل تواضع واعترف بخطيته (٢صموئيل١٢). وبطرس الرسول لم يغضب من بولس حين واجهه ووبَّخه بل قبل الأمر (غلاطية٢).
العلم والعمل: «إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه»: مجرَّد العلم بالشيء لا ينفعنا. ربما نعرف ونفهم تعليم الرب عن المحبة والتواضع ومفعول كلمة الله في تنقية سلوكنا. وربما نعظ بها أيضًا. ولكن إن لم نعِش هذا عمليًا فلا نفع من معرفتنا، لأن التطويب لا على المعرفة بل على العمل بما عرفنا.
أخي القارئ: ألا ترى معي حاجتنا الملحة هذه الأيام لمن يقوم بهذا العمل؟ صلِّ معي لنكون هكذا.