“قسمة ونصيب”.. ردّ مقتضب أعتاد الناس أن يقولوه، غالبًا ما يريد به المتكلم أن يعبِّر عن قبوله لوضع معين هو فيه، وغالبًا ما يكون هذا الوضع غير مريح.
وكلتا الكلمتان تعبِّران عما صار للإنسان من امتلاك، أو ما آل إليه من حال.
الغالبية تتفق أن الامتلاك شيء والاستمتاع شيء آخر. أعتقد أنك تتفق معي أن من يمتلك الكثير ولا يستمتع بما يمتلكه هو أكثر شقاءً ممن يمتلك أقل منه. لذلك اعتبره الحكيم سليمان «بَاطِلٌ وَمُصِيبَةٌ رَدِيئَةٌ» أن يكون الإنسان له غنى ومالًا وكرامة وليس لنفسه عوز من كل ما يشتهيه لكنه لا يستطيع أن يستمتع بما عنده (جامعة٦: ١-٣).
لذلك فرَّق الكتاب المقدس بين “الامتلاك” و“الاستمتاع”. الأمر المشترك بينهما أن الله هو المصدر لكليهما. الله يعطي العطايا الصالحة ويعطي أيضًا القدرة على الاستمتاع بها.
يقول الكتاب المقدس عن الله «إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ» (أعمال١٧: ٢٥)، «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ» (يعقوب١: ١٧). وهو لا يعطي فقط الصالحين بل أيضًا الأشرار. «فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ» (متى٥: ٤٥).
ليس ذلك فقط، بل هو يريدنا كذلك أن نستمتع بما أعطانا؛ فقد خلق الإنسان بعدما جهز له كل شيء (تكوين١، ٢). فبعد أن «رَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ» (تكوين١: ٢٥)، قال «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ» (تكوين١: ٢٦). والجنة مكان سكنى الإنسان كان اسمها جنة عدن أي “جنة الملذات”. «وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ» (تكوين٢: ٩). وعندما أوصاه بشأن الأكل من اشجارها قال له «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً» (تكوين٢: ١٦)، أي “كُلّ ما شئت، كن مستمتعًا” فهو يريدنا أن نستمتع بالأكل والشرب (جامعة٩: ٧)، والنوم «تَضْطَجعُ وَيَلُذُّ نَوْمُكَ» (أمثال٣: ٢٤)، وكل عطاياه المادية فهو «اللهِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ» (١تيموثاوس٦: ١٧). هذا هو الله كلي الصلاح.
عندما بدأت بذور الشك في صلاح الله تدخل في حواء، صدَّقَت ادعاء الشيطان أن الله لا يريد لهما أن يستمتعا، فلم تذكر للشيطان أن الله قال لهما «تَأْكُلُ أَكْلاً»، واكتفت بالقول «نَأْكُلُ». وصوَّرته وكأنّه يتلذذ بحرمانهم، فقالت إن الله قال عن ثمر الشجرة التي في وسط الجنة «وَلاَ تَمَسَّاهُ» مع أن الله لم يقُل هكذا (قارن تكوين٢: ١٦، ١٧ مع ٣: ٢، ٣).
وإذ أراد الإنسان أن يستمتع بما ليس من حقِّه، وبطريقته، وليس في خضوعه لله؛ جلب لنفسه الشقاء، وكان عليه أن يواجه الحكم الإلهي «مَوْتًا تَمُوتُ». وبدل التمتع بالأشجار الشهية للنظر والجيدة للأكل أصبح نصيبه «شَوْكًا وَحَسَكًا» (تكوين٣: ١٨).
وهذا ما قاله الحكيم «إذ بمعزل عنه من يستطيع أن يأكل ويستمتع؟» (جامعة٢: ٢٥ - ترجمة كتاب الحياة)
كذلك أعطى الله شعبه قديمًا أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا، لكن منهم من لم يستطع أن يحارب ليأخذ ميراثه، ومنهم من تكاسل على هذا الأمر واكتفى بجزء مما قسمه له الرب، وجزء من الأرض ظل من نصيب أعدائهم!
وهو نفس ما يحدث معنا كمؤمنين في امتلاك البركات الروحية، فالله قد باركنا بكل بركة روحية (أفسس١: ٣)، لكننا عمليًا لا نستمتع بكل ما لنا. يحتاج الأمر إلى نضوج روحي لأنه «مَا دَامَ الْوَارِثُ قَاصِرًا لاَ يَفْرِقُ شَيْئًا عَنِ الْعَبْدِ، مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الْجَمِيعِ» (غلاطية٤: ١)، يحتاج أيضًا للاجتهاد والمحاربة من أجله «كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ» (يشوع١: ٣).
الآية ٥ من مزمور١٦ تتحدث ليس عن “قسمه ونصيب” بل عن نصيب قسمة وكأس «الرَّبُّ نَصِيبُ قِسْمَتِي وَكَأْسِي». والفرق هو أن القسمة والنصيب يعبِّران عما عندي، أما الكأس فيعبِّر عما استمتع به فعليًا. لذلك يصف داود تمتعه بالرب الذي جعله ليس فقط مكتفيًا بل فائضًا بالقول «كَأْسِي رَيَّا» (مزمور٢٣: ٥).
وما أسعدنا عندما لا نعرف عن الرب فقط بل عندما نستمتع به فعليًا، وعندما لا نعرف عما لنا فيه فقط بل نمتلك ونستمتع بما امتلكناه. القرب الحقيقي منه ليس حرمانًا من التلذذ بالحياة، كما أراد الشيطان أن يصور للإنسان من البداية، ولا زال يفعل، إنما هو يريد أن يكون هو بذاته نصيبنا الصالح الذي نمتلكه ونستمتع به، وعندها سنجيد الاختيار وسنميز الحقيقي من المزيف.
يقولون إن الشخص الغني ليس من يمتلك أكثر بل من يحتاج أقل. وأولاد الله يمتلكون كل شيء لأنهم يمتلكون المسيح (١كورنثوس٣: ٢١)، وواحد منهم اكتفى به فاستطاع أن يقول «مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ» (مزمور٧٣: ٢٥).
إن استمتعنا بالمسيح فسنستمتع بكل شيء، وبدونه لا قسمة لنا في كل ما هو حقيقي وأبدي ولا استمتاع حقيقي حتى بعطاياه. في قربه نستلذ الاستمتاع الحقيقي، ونرفض مثل موسى التمتع الوقتي بالخطية (عبرانيين١١: ٢٥)، ولن تكون بهجتنا الحقيقية بالانغماس في الملذات (٢بطرس٢: ١٣).
دمت ممتلكًا ومستمتعًا في المسيح ليكن هو قسمتك وكأسك.
عماد ثروت