تم ربطها زورًا في الأذهان، فعرقلت بشدة خطوات الإنسان، وتعامل معها على أنها حقيقة دامغة، ولم يعلم أنها في الأصل زوان.
الحلم الكامن
ليس خافيًا أنه وسط الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها حاليًا، يمكن للإنسان أن يستدعي حلمًا كامنًا داخله، وهو الهجرة لدولة متقدمة؛ ليحظى بالصورة الوردية التي طالما سمع عنها ورأى صورها.
والحقيقة أن كثيرين ارتبطت الهجرة في أذهانهم بكل ما هو أفضل؛ سواء كان تعليمًا، أو أمانًا، أو صحةً، أو دخلاً، للدرجة التي جعلتهم ينتظرونها بفارغ الصبر، بل ويرهنون كل حياتهم عليها.
ولا أنسى حديثًا دار بيني وبين سيدة كنت أعرف أولادها، فسألتها عنهم، فأجابت: الحمد لله في صحة وستر حتى شهر٤، فاستغربت الإجابة، وسألتها: ولماذا شهر٤؟! فأجابت: لأنه في هذا الشهر ستظهر نتيجة الهجرة العشوائية لأمريكا، وإن شاء الله ستأتي لنا هذه المرة - رغم أننا نقدم فيها من ١٥ عامًا - ووقتها ستتغير حياتنا بالتمام، وستتغير إجابتي على سؤالك!
الوجه الآخر
ومع احترامي لكل الدول المتقدمة، والتي وهبها الله الكثير من الخيرات الطبيعية والكوادر البشرية، والتي أقامها (فعل ماضي) بعض مؤسسيها على كثير من المبادئ الكتابية والأخلاقية في الماضي، إلا أن المتابع المُنصف لما يدور من تغيرات ديناميكية سريعة في هذه الدول حاليًا، سيكتشف أن الصورة لها وجه آخر، لا يراه الإنسان اللاهث وراء الهجرة.
فلمن يهاجرون بحثًا عن الأمان الأفضل، تخبرهم جريدة الواشنطن بوست أن ٤٢٪ من الأمريكان لا يشعرون بالأمان حاليًا، ويخافون من التهديد المستمر من الإرهاب. ويخبرهم موقع بي بي سي BBC في ٥/١/٢٠١٦ أنه في عام ٢٠١٥، حدثت ٣٧٢ حالة إطلاق نار عشوائي في الشوارع والمدارس، قتلت ٤٧٥ شخص وأصابت ١٨٧٠ أمريكيًا.
ولمن يهاجرون طلبًا لصحة أفضل، يخبرهم استطلاع رأي لمؤسسة هاريس الأمريكية، أن ٨٠٪ من الأمريكان يرون أن نظامهم الصحي يحتاج إلى تغيير شامل. وتخبرهم دراسة أجرتها ولاية تكساس أن ١٢ مليون أمريكي يعانون من التشخيص الطبي الخاطئ سنويًا، ومعظم هذه الأخطاء تؤدي إلى الوفاة!!
ولمن يطلبون وضعًا اجتماعيًا أفضل، تخبرهم إحصائيات التركيبة السكانية التابعة للأمم المتحدة، أن نسبة الطلاق في أمريكا وصلت ٥٣٪، وأن ٤٠٪ من المواليد من نساء غير متزوجات.
ولمن يطمحون في دخل مادي أفضل، عليك أن تعلم أنه إن كان معك ١٠ دولارات، فأنت أغنى من ٢٥٪ من الأمريكان، لأنهم يعتمدون فقط على كروت الائتمان، ويقضون أغلب عمرهم مديونون للبنوك حتى الوصول لسن التقاعد.
وهذه الإحصائيات ليست تجنيًا على هذه الدول، ولا حكمًا شاملاً بأن كل المهاجرين إليها سيصيبهم الفشل والدمار، ولكنها محاولة بسيطة لتصحيح النظرة الأحادية للهجرة، والتي لا تدرك الصورة الكاملة كما يعيشها أصحابها. ولا أنسى ما قاله لي طبيب مؤمن، هاجر إلى أمريكا ويخدم الرب في عدة دول نامية، فقال: ٩٠٪ ممن يأتون هنا يتعَبون ويُتعِبون!!
الإرسالية الخاصة
والحقيقة أن المشكلة ليست في قرار الهجرة في حد ذاته، ولكن في دوافعه ووسائله، وسنناقش هنا دوافع الهجرة، والتي لن تخرج عن دافعين في رأيي الخاص؛ أولهما أن تكون الهجرة إرسالية خاصة من الله، أما ثانيهما أن تكون هروبًا من أوضاع معيشية سيئة.
الدافع الأول؛ نجده مثلاً في إبراهيم، خليل الله، الذي ظهر له الرب وهو في أور الكلدانيين، قائلاً: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ... إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ» (تكوين١٢: ١)، ورغم قلة المعلومات لدى إبراهيم؛ فهو لا يعلم أين هي هذه الأرض، وإلى متى سيمكث فيها، ولماذا يريده الله هناك؛ لكنه أخذ خطوة إيمان إلى المجهول، بناءً على دعوة الله له، وهي هجرة في ملء مشيئة الله تمامًا.
ونجد هذا الدافع أيضًا بصورة أشمل وأروع، في الإنسان الكامل؛ يسوع المسيح. فكما أنه لم يستشعر الحرج لأنه ولد في قرية بيت لحم «الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا» (متى٢: ٦)، وكما أنه لم يضجر أبداً وهو يتربى في إقليم الجليل المحتقر، والذي قيل عنه «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» (يوحنا١: ٤٦)، فإنه أيضًا اتخذ قرارًا بتغيير سكنه من الناصرة إلى كفرناحوم، رغم أنها مدينة مليئة بالمرضى والمجانين، وأغلب سكانها من القساة والمتكبرين.
فنقرأ عن المسيح «وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ»، ولم يكن هذا القرار بناءً على ظروف دافعة أو راحة شخصية، فهو لم يذهب لنهر الأردن ليعوض غياب يوحنا، ولم يذهب إلى العاصمة أورشليم حيث صخب اللقاءات والاحتفالات، ولكن كان هذا القرار لتتميم وعود الله «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ...»، وأيضًا لمتابعة تنفيذ مشيئة الله، فنقرأ «مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ...» (متى٤: ١٢-١٧)، فيا له من إنسان فريد!!
الهروب الخائب
أما الدافع الثاني للهجرة، والذي يلجأ إليه الكثيرون، هو هربًا من ظروف يقول إنها صعبة، وطمعًا في وضع يظنه أفضل.
وظهر هذا الدافع أيضًا في إبراهيم، فبعد أن جرب الهجرة أولاً في مشيئة الله، نقرأ عنه فنقرأ: «وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ، فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ، لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيدًا» (تكوين١٢: ١٠)، وهو سبب غير كافٍ بالمرة، كشف عن ضعف إيمان كان وقتها في قلب إبراهيم. فقبل حدوث الجوع مباشرةً «ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ» (تكوين١٢: ٧)، وكان عليه أن يثق في أن الله القدير الصالح الذي جلبه من أور الكلدانيين، لن يسمح لأي جوع أن يؤذيه، لأنه يخطط لاستحيائه وتوريث الأرض لنسله.
الانبهار الزائف
ومن يدقِّق في قصة هجرة إبراهيم السابقة، سيكتشف أنه ربما كان الجوع ستارًا يخفي سببًا آخر للهجرة؛ الانبهار بالحضارة الفرعونية والخيرات المتعددة، ولهذا قال لزوجته سارة: «قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ» (تكوين١٢: ١٣).
وانتهت مشكلة الجوع، التي هاجر بسببها إبراهيم، «فَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ» (تكوين١٢: ١٦)، لكن للأسف ظهرت مشاكل أكبر وأعوص؛ حين أُخذت منه زوجته وحبيبته سارة، ليتزوجها فرعون، وقضى إبراهيم ليلته في حضن البقر والغنم والحمير، فيما تقترب شريكة حياته من حضن رجل آخر!!
وتعلَّم إبراهيم الدرس الصعب، الذي ليتنا نتعلمه، وهو أن العالم لا يقدِّم شيئًا مجانًا، فإن أعطى بأصبع فسيأخذ بكلتا يديه. وأن الهجرة بدون مشيئة الله قد تحلّ مشكلة، لكنها ستخلق عشرات المشاكل، فهي package لا يمكن انتقاء الصالح فقط، وتجنب الرديء منها.