لا ينكر أحد أن لكل زمان ملامحه الخاصة، ومستحدثاته التي تؤثّر على أسلوب الحياة. وأحد ملامح زماننا الإقبال المتزايد على استخدام وسائل متنوعة في التواصل أكثر من المقابلات الشخصية أو حتى الاتصالات أو المراسلات المباشرة. أصبح الإنترنت من ضروريات الحياة كالهواء والماء للكائنات الحية. ربما شعر أحدهم باختناق إن منعته لبضعة أيام (أو ربما ساعات) من استخدام برامج معينة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من روتين حياته اليومية. كثرت المجموعات groups والمواقع التي نستقبل من خلالها عشرات الرسائل يوميًا بمختلف أهمية ومضمون كل منها وتوجهاتها سلبيًا وايجابيًا. وهي سلاح ذو حدين!
لسع الكلام، وعسل الكلام
لم أسمع أو أقرأ من قبل، هذا الكم من رسائل النقد والإدانة وأحيانًا الإهانة، حتى فيما يتعلق بأقدس الأمور وأقرب العلاقات. وعلى النقيض، لم اقرأ في حياتي هذا القدر الهائل من الشذرات والتأملات الروحية القصيرة المنتقاة والمتداولة بين الأصدقاء كهذه الأيام. كثر نشر وتناقل العبارات المأثورة وانتقاء الألفاظ المؤثرة، بصورة غير مسبوقة. وهذا أمر جميل في حد ذاته، ونرجو أن يكون له تأثيره المبارك في حياة كل من يكتبها وينشرها ومن يقرأها. لكن السؤال الذي طرأ على ذهني، أهي نهضة حقيقية في المعرفة أو الخدمة من خلال الانترنت؟ أم هو سباق على النشر وتسويق الانطباعات في زمن الكلام الرنان والتباري باللسان؟ لا تتسرع بالحكم على الكلام وفكر معي. إنها مجرد خواطر وتساؤلات لمحاولة قراءة وفهم ما يجري على ساحات التواصل ووسائله الحديثة ومدى تأثير ذلك على أفكارنا وتوجهات قلوبنا.
ثمة رائحة غريبة فائحة
كثر الكلام من كل الأعمار والفئات في شتى المجالات والمجادلات، في الأمور الكنسية والاوضاع السياسية. البعض بكتاباتهم يحاولون تبرير تصرفاتهم، لتسكين ضمائرهم الصارخة، والبعض الأخر يحاولون توصيل رسالة ثورية للقادة ولأولي الأمر، سواء في مدارسهم أو عائلاتهم أو حتى كنائسهم المحلية. آخرون يبدون وكأنهم يروّجون أقوالًا لمعجبيهم، أو كيدًا أو ردًا على خصومهم. الرب وحده هو الذي يعلم الدوافع وراء أي كلام؛ لذيذًا كان أم لاذعًا، لكن ما نخشاه هو الانجراف والانسياق لأساليب شائعة بين أبناء هذا الدهر، تنتقل إلينا شيئًا فشيئًا دون أن نمتحن كل شيء يجري حولنا ودون أن نختبر قلوبنا، وذلك إن أردنا ان نكون صادقين ومؤثرين بالفعل لا بالأقوال أو بالافتعال. لا يعني هذا الوضع السائد أنه منهج الجميع في التواصل، لكن عندما يكون نهج الكثيرين فحتمًا سيصطبغ الطابع العام بلونه ويبرز ما يطلق عليه “ظاهرة”. لكن الحق يقال إنه يوجد أشخاص لهم الحس الروحي، عادة ما تكون ظهوراتهم قليلة أو عابرة لكن في الواقع كلماتهم في أوانها، مُعبِّرة ومؤثّرة، تخرج من قلوبهم صادقة ونقية، إلى قلوب السامعين كسهام مبرية.
أنريد التواصل أم نزيد الفواصل؟
تأثرت جدًا عندما روى صديق لي من عدة سنوات أن ابنه الطفل الصغير خرج من غرفته مسرعًا نحو غرفة أبيه غاضبًا ليعاتبه على رسالة أرسلها له على أحد برامج الدردشة يقول فيها له “تصبح على خير يا حبيبي، أقفل الكمبيوتر ونام”. فقال الطفل الصغير لأبيه “مش بحب الأسلوب ده يا بابا، اتعودت أشوفك قبل ما أنام مش تكتب لي”. هنا أتساءل كم من أعمال ولمسات افتقدناها في الحياة بسبب هذا الغزو التكنولوجي الذي ساء استخدامه بعدم اتزان، وتوجه في إتجاه غير الذي أنشئت من أجله؟ أظن أنه في بداية الأمر، كان لها دور عظيم في تسهيل التواصل عندما قربت إلينا الذين تفصل بيننا وبينهم محيطات، انما اليوم أبعدت عنا الذين تفصل بيننا وبينهم حوائط.
لا تترك الواقع لتعيش في المواقع
البعض أفرط في استخدام الإنترنت هروبًا من الواقع بمسؤولياته وتحدياته وارتضوا أن يختبئوا في سراديب الإنترنت ويطلون برؤوسهم من نوافذه وقتما شاءوا ثم يعودون التجوال في دهاليزه من جديد. أقول لمن ينتقد الآخرين بأسلوب لاذع أو مهين عليه أن يتذكر أنه من يقذف الوحل قد يبدو أنه نجح في إصابة الهدف لكنه يصيب يديه أولاً. لا يبهرك عدد الثائرين الذين ركبوا أمواجًا، هيجتها أنت بريح أرائك الثورية العصيفة، فموافقة الآخرين لك لا يعني أنك محق.
ومن يختفي خلف قناع الأقوال المعسولة، يفوته أنه ليست كل العبارات الرقيقة صادقة وليست كل الكلمات الجميلة مؤثرة. الذي يعطي قوة للكلام هو الصدق، الذي يخلو من المبالغة وأيضًا مدى ملائمة الكلام للتوقيت والفئة الموجه إليها، مع العلم أن الكلمات وحدها لا تكفي مهما كانت حلاوتها وعذوبتها. عزيزي، اخرج من المواقع، وعِش في الواقع، وقدِّم شيئًا عمليًا حتى وان كان مكلفًا للوقت والجهد والمال، لا فقط كلمات ومشاعر وصور وأشعار.
ندرة الأعمال في زمن الكلام
هل تاهت الاعمال الحسنة وتعب المحبة بين زحام الكلام؟ ألا توجد حلول فعالة يمكن أن تقدِّمها لابناء جيلك بصورة عملية؟ في الحقيقة، لن نجد عملاً روحيًا قويًا دون أن يكلِّف صاحبه قضاء وقت كافٍ في المخدع المغلق ثم يقوده الرب إلى عمل شيء، عادة ما تكون معظم خطواته - أو مراحله الأولى - على نطاق ضيق، مع عدد محدود من الأفراد ثم يتسع. أنظر ما فعله نحميا مثلاً. لو كان الأمر مجرد تعبير عن الاستياء من الحالة وانتقاد الآخرين ما تحقق العمل الذي عبر عنه بالقول «إِنِّي أَنَا عَامِلٌ عَمَلاً عَظِيمًا».
أين أنت يا طابيثا؟
بالطبع يوجد لدينا المزيد من الأعمال الحسنة التي يمكن أن تشغل الوقت الثمين، أكثر أهمية من إدانة هذا والرد على ذَاك. بصرف النظر عن مضمون الكلام، نحتاج أن نتذكَّر أن الحياة في الواقع تحتاج منا أن نعمل شيئًا ولا نجلس لنبحث القضايا ونحلل الأوضاع، وندين الأخطاء وندير الأمور من أمام الشاشات. طابيثا تلميذة للرب، لا نسمع من أقوالها شيئًا، لكن شهادة الروح القدس عنها أنها ممتلئة أعمال صالحة وإحسانات، أين طابيثا في أيامنا؟
جيد أن يكون لنا شيء نقدِّمه للآخرين، لكن وجب علينا أن نمتحن أنفسنا لئلا يكون الدافع هو لفت الأنظار أو إبراز المواهب أكثر من التركيز على مضمون الرسائل وغرضها. لنذكر جميعًا أن الاّراء التي نطرحها والكتابات التي ننشرها هي أمام عيني ذاك الذي معه حساباتنا ولا بد أن نحصد يومًا ما زرعناه بأقلامنا أو شفاهنا أو أصابعنا.