“كوري تن بوم” (١٥/٤/١٨٩٢ – ١٥/٤/١٩٨٣)، هولندية مسيحية - جنبًا إلى جنب مع والدها وشقيقتها “بتسي”، وأفراد عائلتها الآخرين – ساعدت الكثير من اليهود على الهرب والنجاة من اضطهاد النازية، خلال الحرب العالمية الثانية. وسُجنت بسبب هذا الأمر، ولكن بعد انتهاء الحرب بهزيمة النازي، أُطلق سراحها، فانطلقت تجوب كل العالم لتُقدِّم دليلاً حيًّا على الإيمان المسيحي والتسامح والغفران والمحبة في وجه الوحشية والبغضة والكراهية، وشهادة مذهلة لقوة الله المُعضّدة وسط جنون الشراسة والنجاسة والإرهاب الدموي الرهيب.
وتحكي “كوري” - في كتابها “مسيرة لأجل الرب” - عن زيارة لها لإقليم ليتوانيا في روسيا، إبان الحكم الشيوعي، وأثناء هذه الزيارة قامت بزيارة امرأة عجوز تقيَّة تخدم الرب. وعن هذه الزيارة تقول “كوري”:
وصَلت إلى شقتها ليلاً لكي نتجنب اكتشافنا مِن قِبَل السلطات الشيوعية. تسلّقت أنا ومرافقتي درجات السلم الشديدة الانحدار، لنخرج من باب خلفي إلى الشقة المُكوَّنة من حجرة واحدة. كانت مُكدَّسة بالأثاث مما يعد دليلاً على أن الزوجين العجوزين كانا يعيشان ذات مرة في منزل أكبر وأروع.
كانت العجوز تنام – مُحاطة بالوسائد - على أريكة صغيرة. كان جسدها مثنيًا وملتويًا بما يفوق الوصف، بسبب تشوّه وتيَّبُس جميع مفاصل جسمها، بما فيها مفاصل العمود الفقري، نتيجة لمرض الروماتويد المُرعب. وكان زوجها المُسن يقضي كل وقته في العناية بها، لأنها لم تكن قادرة على التحرك بعيدًا عن الأريكة.
مشيت عبر الحجرة، وانحنيت وقبَّلت وجنتها المتجعدة. حاولت السيدة أن تنظر إلى أعلى، ولكن العضلات في عنقها كانت ضامرة، ولذا لم تستطع إلا أن تحرك عينيها إلى أعلى وتبتسم. ورفَعت يدها اليُمنى ببطء، وهي ترتعش عدة مرات. كانت يدها اليُمنى هي الجزء الوحيد من جسدها الذي استطاعت أن تسيطر عليه. واستطاعت بمفاصل أصابعها المُشوّهة والكثيرة العقد أن تربت على وجهي.
تأملت إصبع السبابة في تلك اليد؛ الإصبع الوحيد الذي أبقاه الله خاليًا من التشوّهات وتيَّبُس مفاصله. ثم اقتربت منها وقَبَلت أصبع السبابة هذا في تلك اليد، لأنها طالما مجَّدت الله بهذا الإصبع الوحيد.
فبالقرب من أريكتها كانت هناك آلة كاتبة من الطراز القديم. وفي كل صباح كان زوجها الوفي ينهض من النوم، ويُصلي ويحمد الرب، ثم بعد أن يستجيب لاحتياجات زوجته ويُطعمها إفطارًا بسيطًا، يساعدها على وضع الجلوس على الأريكة، ويضع الوسائد حولها حتى لا تقع. بعد ذلك كان يحرك تلك الآلة الكاتبة السوداء القديمة لتكون أمامها على منضدة صغيرة.
ثم كان يُخرج كومة من الورق الأصفر الرخيص من دولاب قديم. وعندئذٍ كانت الزوجة تبدأ في الكتابة بذلك الإصبع الوحيد المُبارك، طوال النهار، وجزءًا من الليل. كانت تترجم الكتب المسيحية إلى اللغة الروسية واللغة اللاتفية؛ لغة شعبها. وكان زوجها يجمع الصفحات الخارجة من آلتها الكاتبة ليوزعها سرًا على المسيحيين.
يا لها من مقاتلة! باستخدام ذلك الإصبع الوحيد فقط؛ نقرة.. نقرة.. كانت تطبع الصفحات المُترجَّمة. إن أجزاء من الكتاب المُقدَّس، وكُتُب بِلي جراهام، وواتشمان ني، وكوري تن بوم... كلّها خرجت مُترجَمَة من آلتها الكاتبة، لتكون طعامًا للمؤمنين.
وقال زوجها: إنها لا تترجم كتب هؤلاء فقط، لكنها تُصلي لأجلهم، ولأجل خدام الرب في كل العالم، أثناء الكتابة. في بعض الأحيان كانت تستغرق وقتًا طويلاً، وبمعاناة شديدة، لتنقر على الأزرار، أو لتضع الورقة في الآلة، ولكنها طوال الوقت كانت تُصلي لأجل هؤلاء التي تعمل لترجمة وكتابة كُتبهم!
نظرت إلى جسدها البالي المُشوَّه على الأريكة، حيث كان رأسها منخفضًا لأسفل، وكانت قدماها ملتفة تحت جسدها. أخذت أبكي بداخلي: “يا رب.. لماذا لا تشفيها؟!”
أحسَّ زوجها بالألم النفسي الذي انتابني، فقدَّم الجواب: “لله غرض في مرضها. إن كل مسيحي آخر في المدينة مُراقَب من البوليس السري الشيوعي، ولكنها لأنها مريضة لفترة طويلة، لا أحد يتحرى عنها. إنهم يتركوننا لحال سبيلنا. وهي الإنسانة الوحيدة في كل المدينة التي تستطيع أن تكتب على الآلة الكاتبة بهدوء، ودون أن تُكتشف ”.
وبعد شهور قليلة من عودة “كوري” إلى هولندا، وصلها خطاب من الزوج يقول عنها إنها في ساعات الصباح الباكر من أحد أيام الأسبوع الماضي، غادرت الأرض وانطلقت لتكون مع الرب. وقال: “لقد عملت حتى منتصف الليل من نفس تلك الليلة، وهي تكتب بذلك الإصبع الواحد، لمجد الرب”.
عندما قرأت هذه القصة تخيّلت الرب يسوع يصنع له منزلاً ويُقيم إقامة كاملة في هذه الغرفة (يوحنا١٤: ٢٣)، وهو يجلس يُراقب بفرح هذه السيدة العجوز المريضة، ويُهوّن عليها آلامها وأتعابها، ويقول عنها: «قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا! ... عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا» (مرقس ١٤: ٦-٨).
وتذكَّرت أيضًا الرب يسوع وهو يجلس في الهيكل تجاه الخزانة، ينظر كيف يُلقي الجمع أموالاً في الصندوق، وفرح عندما سمعت الرب يسوع يُبارك الأرملة الفقيرة التي «أَلْقَتْ فَلْسَيْنِ»، والتي - مثل هذه السيدة المريضة - «مِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا»، فوجد الرب فيها كل مسرته (مرقس١٢: ٤١-٤٤؛ لوقا٢١: ١-٤). إن الفقر والحزن لم يُفسِدا قلب هذه الأرملة، ولم تَجفّ منها ينابيع الشكر لله، فلم تتخلَّ عن لذة العطاء لله المُعطي الأعظم، فذهبت إلى بيت الله بتقدمتها، وأعطت فلسيها الصغيرين. وبعد أن أَلْقَتْ تقدمتها، خرجت خالية الوفاض من كل الوسائل المنظورة للإعالة في المستقبل. لقد «أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا»، لكي تُبرهن بعطيتها على حبها العظيم للرب؛ لم تنظر إلى نفسها وما يلزمها قَطّ، ولم تحتفظ لنفسها بأي احتياطي بالمرة، وهو ما يؤكد على ثقتها الكاملة في إلهها الذي في مقدوره أن يسدد أعوازها.
أيها الأحباء: ليتنا نتفكَّر معًا في كم يساوي التكريس القلبي في موازين الأقداس، وكم هو مُسرّ لقلب الله، فتتولد في قلوبنا رغبة مُلحة عظيمة لخدمة الرب. إن الرب يسوع قد أخلى نفسه مع كونهِ مَنْ سما، وجال في الدنيا يحتمل العَنا، ثم أَراق دَمَهُ الثمين مِن أجلي، فِدى لكي أنجو أنا مِن الهَوْلِ، وقد أتى لي بالغفران والنجاة، ووهبني الخلاص والحياة. فأمام هذه الحقيقة ليتني أسأل نفسي: وأنا ماذا يا تُرى تَرَكتُ مِنْ أَجْلِهِ؟ وأنا ماذا يا تُرى فَعَلْتُ مِنْ أَجْلِهِ؟ وأنا ماذا يا تُرى قَاسَيتُ مِنْ أَجْلِهِ؟ وأنا ماذا يا تُرى وَهَبْتُ مِنْ أَجْلِهِ؟