في يومٍ من الأيام وصل على مكتب ملك البلاد ملف خاص مكتوب عليه عبارة “سري للغاية”، وإذ بالملك يفتح الملف ويجد مكتوبٌ فيه “رصدت أجهزة المخابرات العسكرية تحرك قوات تحالف مشتركة من ثلاث دول”، مُوضَّحـًا فيها معلومات تفصيلية بأعداد الجيوش المهاجمة والأسلحة المستخدمة معهم. وعلى الفور استدعى الملك المستشارين العسكريين للوقوف على آخر تطورات الموقف. علم أن المجلس العسكري في حالة انعقاد دائم فور وصول هذه المعلومات الخطيرة، ولا سيما عندما قورنت أعداد وأسلحة هذه الجيوش بأعداد وجيش الملك وقواته العسكرية المحدودة؛ فأُسقط في يدي الملك وخاف جدًا من هذه التقارير. ولكن هذا الملك كان رجلاً مؤمنـًا تقيـًا يثق جدًا في الرب وفي قدرته، فذهب ليطلب وجه الرب، ونادى بصوم في كل البلاد وعمل فرصة صلاة كبيرة في بيت الرب.
ذلك هو الملك التقي يهوشافاط، الذي عندما تحالفت ضده ثلاث دول مهاجمة هم: موآب، وبني عمون، وسكان جبل سعير؛ فما كان منه إلا أنه جمع الشعب كله مع الأطفال والنساء في بيت الرب وكانوا يتضرعون إلى الرب بالصوم والبكاء والصلاة وقال قولته الشهيرة «لأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا قُوَّةٌ أَمَامَ هذَا الْجُمْهُورِ الْكَثِيرِ الآتِي عَلَيْنَا، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا نَعْمَلُ وَلكِنْ نَحْوَكَ أَعْيُنُنَا» (٢أخبار٢٠: ١٢).
وهنا في هذا القصة لنا تعاليم عظيمة منها تعاليم تحذيرية وتعاليم تشجيعية
أولاً التعاليم التحذيرية: ممثلة في الأعداء الثلاثة وهم:
١- موآب: التي كانت تشتهر بأراضيها الخضراء ورغد العيش، ولكنها كانت سبب دمار قبل ذلك لنعمي وأسرتها. وفيها نرى العالم بكل ما فيه من شرور وغرور ومباهج تبهر الأنظار. ولا ننسى أيضًـا ما فعله قبل ذلك بالاق ملك موآب حين استأجر بلعام بن بعور ليلعن شعب إسرائيل، قبل أن يصل إلى أرض الموعد. هذا هو العالم الذي يقف بالمرصاد ضد شعب الله.
٢-بني عمون: الذي كان يقف أيضـًا بالمرصاد دائمًا لشعب الله (قضاة١١؛ ٢صموئيل١٠؛ حزقيال٢٥)، لمحاربتهم أو تعييرهم. وأشهر قصة في تحديهم لشعب الله هي عندما أرسل ناحاش العموني إلى شعب يابيش جلعاد لمحاربتهم وعندما طلبوا منه معاهدة سلام، اشترط أن يكون أول بند من بنود المعاهدة هو «بِهذَا أَقْطَعُ لَكُمْ. بِتَقْوِيرِ كُلِّ عَيْنٍ يُمْنَى لَكُمْ وَجَعْلِ ذلِكَ عَارًا عَلَى جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ» (١صموئيل١١: ١، ٢). وهنا نرى صورة واضحة للشيطان.
٣- جبل ساعير: الذي سكنه نسل عيسو الذي هو أدوم، أول شخص اشتهى شهوة الجسد، وباع البكورية بأكلة عدس، والذي حذَّر منه الرسول بولس في رسالة العبرانيين قائلا «لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِيًا أَوْ مُسْتَبِيحًا كَعِيسُو، الَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ» (عبرانيين١٢: ١٦). وهنا نرى صورة رمزية للجسد الفاسد الذي فينا.
وهؤلاء هم أعداء المؤمن الثلاثة: العالم والشيطان والجسد.
فالعالم عبارة عن “مول” تجاري كبير. والشيطان هو صاحب هذا المول التجاري. والجسد هو الزبون الذي يشتري البضاعة المعروضة عليه في هذا المول. ولكن هذا المول التجاري الكبير، مكوَّن من ثلاث طوابق كل طابق فيه نوع من البضاعة.
الطابق الأول: فيه شهوة الجسد كما هي واردة في غلاطية٥: ١٩ «وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ».
والطابق الثاني: فيه شهوة العيون وهذا ما ذكره الكتاب في ٢بطرس٢: ١٤ «لَهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقًا، لاَ تَكُفُّ عَنِ الْخَطِيَّةِ».
والطابق الثالث: فيه تعظم المعيشة الذي حذر منه الرب قائلاً «فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ» (متى٦: ٣١).
فشهوة الجسد تقسّي القلب، وهذا ما حدث مع داود عندما انجذب وانخدع من شهوته وسقط في خطية الزنا والقتل. وأيضـًا كانت شهوة الجسد سبب سقوط شمشمون.
وشهوة العيون تفسد الأذهان وهذا ما حدث مع سليمان الذي قال مرة «وَمَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا» (جامعة٢: ١٠)، ولكنه في آخر أيامه عبد آلهة غريبة.
وتعظم المعيشة تفسد الضمير وقد كانت سببًا أيضـًا في غواية سليمان ولوط وديماس الذي ترك الخدمة.
لكن نأتي الآن إلى التعاليم التشجيعية وهذه التعاليم نجدها في العبارة الموجزة التي قالها الملك التقي يهوشافاط في صلاته متضرعـًا إذ قال «نحوك أعيننا» وهذه العبارة تحمل كَمًّا عظيمـًا من التشجيعات في وسط المخاوف.
فهذا الرجل الذي خارت قواه ونظر إلى الجيوش الغفيرة الزاحفة نحوه، صرخ إلى الرب طالبًا النجدة الإلهية قائلاً «لأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا قُوَّةٌ أَمَامَ هذَا الْجُمْهُورِ الْكَثِيرِ الآتِي عَلَيْنَا، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا نَعْمَلُ وَلكِنْ نَحْوَكَ أَعْيُنُنَا» (٢أخبار٢٠: ١٢). وكأن هذا الرجل، عندما خارت قواه، أمسى لا يستطيع حتى التعبير بالكلام؛ فوقف في محضر الله ورفع عينيه إلى السماء صامتًا لا يقوى على الكلام، وكأنه يقول للرب أنت قارئ جيد للغة العيون، وأنت تستطيع قراءة كل المخاوف التي في عيوننا نحن وأطفالنا ونساءنا: يا رب نحوك أعيننا، اقرأ ما بداخلنا، الذي لا نستطيع التعبير عنه بألسنتنا، فأنت فاحص القلوب ومختبر الكلى.
وفي وسط المخاوف نجد الرب يأتي إلينا والأبواب مغلقة مقفلة ويقول لنا قولته المطمئنة «سَلاَمٌ لَكُمْ!» (يوحنا٢٠: ١٩).
طوبانا بهذا الإله العظيم الذي يقرأ لغة عيوننا ويتجاوب مع مخاوفنا. له كل الحمد.