مريم فتاة يهودية، من قرية بيت عنيا، أخت مرثا ولعازر، وتأملنا في المرة السابقة كيف أنها سكبت الطيب على رأس الرب وجسده ثم دهنت قدميه، «فامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ» والآن نستكمل الدراسة:
مريم مسحت قدمي الرب بشعرها
شعر المرأة هو مجد لها (١كورنثوس١١: ١٥)، فعندما مسحت قدميه بشعرها، واستخدمته كمنشفة، بذلك تكون قد طرحت مجدها عند قدميه، وأعلنت أنه هو كل شيء بالنسبة لها، ويستحق كل غالٍ وثمين. وكأنها تقول: «يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا٣: ٣٠).
شعر مريم أصبح مملوءًا من رائحة الطيب، وبالتالي حيثما تحركت فاحت منها رائحة الطيب. صورة للمؤمنين الذين هم «رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ ِللهِ» (٢كورنثوس٢: ١٥)، وحيثما يوجدون في مكان ما يُظهرونها.
الرب دافع عن مريم
ما عملته مريم كان منعشًا لقلب المسيح، لكن للأسف «اغْتَاظُ التلاميذ قَائِلِينَ: لِمَاذَا هذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا الطِّيبُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ، وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا» (متى٢٦: ٨، ٩؛ مرقس١٤: ٤، ٥). لكن الروح القدس وضح في يوحنا١٢: ٤-٦ أن الذي قاد التلاميذ في هذا الأمر هو «يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ، وقَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ». كان يهوذا الإسخريوطي محبًّا للمال، ولم يكن يهتم بإكرام المسيح، بل بجمع المال بأي طريقة، حتى أنه بعد ذلك باع المسيح بثلاثين من الفضة، «لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ» (١تيموثاوس٦: ١٠).
ما أعظم الفارق بين مريم ويهوذا الإسخريوطي: مريم تكرم الرب ويهوذا يهين الرب، مريم تسجد ويهوذا يسرق، مريم تُقدِّم للرب، ويهوذا يبيع السيد. احتلت مريم مكانة سامية في قلوب كل المؤمنين في العالم، بينما انحدر يهوذا إلى هاوية العذاب.
أراد يهوذا أن يطعن مريم طعنة غادرة، بتهمة «تَلَفُ الطِّيبِ»، تحت ستار الشفقة على الفقراء، لكي يشوه عملها، ويطفئ تكريسها. لكن الرب يسوع تدخل في الحال ودافع عنها قائلاً: «اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟»، أي لا تزعجونها أو تلومونها بانتقاداتكم وتأنيباتكم واقتراحاتهم.
«قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!»: دلالة على قبول الرب لعملها، النابع من محبة صادقة له، وأن عملها هذا ستظل قيمته إلى الأبد أمام الرب.
«لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ». حسن أن نعتني بالفقراء، لكن هذا الوقت كان لإكرام المسيح وليس الفقراء.
من هذه العبارة نتعلم أهمية الأولويات؛ فالمسيح ذاهب إلى الصليب بعد رفضه من الأمة اليهودية، وهذا وقت إكرامه، أما خدمة الفقراء فهي متاحة في كل حين. يجب عمل الأهم ثم المهم، ويجب انتهاز الفرص النادرة والقصيرة الزمن، ولا سيما التي لا تتاح إلا مرة واحدة. والخير الذي يمكن عمله في أي وقت، يجب أن يُفسِح المجال للذي لا نستطيع عمله إلا مرة واحدة.
«عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا». الرب يسوع هو الوحيد الذي قدَّر ما عملته بكل ما لديها من طاقة وعطاء وحب وتكريس. لا شك أن كلمات الرب هذه كانت تلمحيًا لضعفها وصغر إمكانياتها، وبالرغم من ذلك «عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا». قال الحكيم: «كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ» (جامعة٩: ١٠).
«قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ» لأنه رأى المستقبل، وهو أن طيب وحنوط النساء اللواتي سوف يذهبن إلى القبر في يوم قيامته سوف تضيع أمامهم فرصة تكفينه، لذلك قال عن مريم أنها: «قَدْ سَبَقَتْ» لقد تخطت الزمن وسابقته.
كانت مريم إمرأة جيدة الفهم، فعرفت من جلوسها الكثير عند قدمي الرب، ما لم يفهمه التلاميذ، أنه ذاهب إلى الصليب ليموت، لذلك «دَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِه لِلتَّكْفِينِ». ولا نجدها عند الصليب، ولأنها آمنت بكلامه أنه سيقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، لذلك لا نجدها عند القبر في صباح يوم قيامته، لأنها لن تجده في القبر.
«إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ». ادّخرت من أموالها واشترت هذا الطيب لكي تضعه على المسيح قبل موته لتكرمه، ولكنها تعرَّضت لتجربة موت أخيها لعازر، وربما فكرت في سكب هذا الطيب على جسد أخيها، ولكنها رفضت هذه الفكرة تمامًا، لأنها خصَّصت هذا الطيب للرب، لذلك حفظته له فقط (لوقا١٤: ٢٦).
إن أفضل وسيلة نحفظ بها أي شيء في يدينا، هو أن نقدّمه للرب، وبذلك لا يضيع.
مكافأة مريم
أمام تكريسها ومحبتها وعطائها، وما عملته للرب، كافأها الرب بأن سجل هذا العمل في كلمته المباركة، ليُكرَز به في كل مكان، فقال «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ تَذْكَارًا لَهَا» (متى٢٦: ١٣؛ مرقس١٤: ٩). قال يوحنا ذهبي الفم تعليقًا على هذا الجزء: “نُسيت أخبار انتصارات لملوك وقادة كثيرين في العالم، وضاعت أسمائهم، أما مريم التي سكبت الطيب على الرب فهى معروفة ومشهورة في العالم. نعم ما عملته قد انتهى، لكن آثاره ما زالت باقية. إنه عمل بسيط، في بيت متواضع، في قرية بيت عنيا، لكنه صار من أشهر الأعمال، حتى بلغ خبره إلى أقصى الأرض”.
كم من الوعاظ والمعلمين في الاجتماعات العامة والخاصة تكلموا عن مريم، وكم من الكتب والمقالات في المجلات ذكرت ما فعلته مريم على مدى الفين عام. أليس هذا إكرامًا عظيمًا لها، وذلك لأنها أكرمت الرب، «يَقُولُ الرَّبُّ: حَاشَا لِي! فَإِنِّي أُكْرِمُ الَّذِينَ يُكْرِمُونَنِي، وَالَّذِينَ يَحْتَقِرُونَنِي يَصْغُرُونَ» (١صموئيل٢: ٣٠).
نالت مريم المدح من فم الرب وهى على الأرض، قبل أن تصل إلى السماء حيث الوقوف أمام كرسي المسيح للمكافاة.
لم تكن تدرك مريم أن ما عملته في هذا اليوم سيكون بركة لكل المؤمنين في كل العالم على مدى قرون كثيرة. قال الحكيم: «اَلصِّيتُ أَفْضَلُ مِنَ الْغِنَى الْعَظِيمِ»، «اَلصِّيتُ خَيْرٌ مِنَ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ» (أمثال٢٢: ١؛ جامعة٧: ١). ولقد أعطاها الرب بعملها هذا صيتًا ذائعًا في كل العالم.
يا ليتنا نتعلم أن نكرم الرب دائمًا، وأن ما نقدمه للرب الآن سيكون محفوظًا لنا طول الأبدية.