الإنسان كائن اجتماعي، لا يستطيع أن يعيش بمفرده. هو دائمًا يبحث عن آخرين، يتحدث معهم، ويستمع إليهم. يسأل عنهم، ويسألون عنه. وواحدة من أهم أسباب شعور الإنسان بالسعادة، هو أن يشعر بقيمته لدى الآخرين، وكلنا نعلم أن لكل إنسان احتياج خاص، وهو طبيعي، وطريقة معينة يشعر معها بقيمته، وأهميته. فهناك من يشعر بقيمته عندما ينادونه باسمه، وآخر عندما يجد من يُصغي إليه بانتباه، وثالث عندما تنظر إليه مباشرة؛ فيشعر باهتمامك الشخصي به.
إن كان علماء النفس قد توصلوا لهذا الأمر عبر السنوات؛ فإن إلهنا المحب، والخالق العظيم يعلم تمامًا احتياجنا للشعور بالقيمة، والتقدير والاهتمام. لذلك فلا نندهش عندما نتأمل في حياة المسيح لنجد بعض التفاصيل الصغيرة التي تؤكد أنه كان يعلم تمامًا احتياج كل إنسان. وكان يتصرف معه بحسب احتياجه العميق للشعور بالقيمة.
دعوة الإنسان باسمه
من أهم الطُرق التي يشعر بها الإنسان بالقيمة والتقدير، فاسمه يخصّه وحده ومناداته باسمه تجعله يشعر بأنه ذو أهمية خاصة للمتكلم؛ وكم من مرات كان هذا الأمر سببًا في إدخال البهجة والسرور لقلوب الكثيرين، والعكس طبعًا في حالة نسيان الإسم.
إلهنا العظيم يعرف تمامًا حاجة الإنسان الشديدة لذلك؛ قال: «دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي» (إشعياء٤٣: ١). فهو لم يكتف فقط بدعوة الإنسان باسمه، إنما أعلن له عن التقدير والاهتمام الشخصي به بكلمة «أَنْتَ لِي». وهذا ما كان يسوع يفعله، فقد نادى كثيرين بأسمائهم أثناء وجوده بيننا على الأرض، نادى: مرثا، ومريم، وزكا، وبطرس، ويوحنا، وآخرين. كان يعرف جيدًا أهمية الاسم لدى الإنسان، ولم يكن يتأخر في نداء كل إنسان باسمه الشخصي.
الاحتياج للحوار والحديث
كان المسيح يعرف يقينًا أن الإنسان كائن اجتماعي يحتاج للحديث، ولهذا كان يقضي أغلب يومه بين الناس؛ يتكلم معهم، ويستمع إليهم بكل قبول وحب وانتباه. في يوم من الأيام كان المسيح في طريقة لإقامة ابنة يايرس من الموت، وجاءت نازفة الدم ولمست هدب ثوبه وشُفيت من نزيفها في الحال فوقف ودار بينه وبينها حديثًا (مرقس٥: ٣٠-٣٣). تخيل معي هذا المشهد العجيب؛ المسيح يذهب مسرعًا لإنقاذ فتاة صغيرة ماتت للتوِّ، ومن حوله جمع غفير. لكنه يتوقف ليسمع من امرأة مسكينة تفاصيل قصتها بالكامل، لقد قالت له الحق كله. حكت له متاعبها، وظروفها، وما تعانيه، وكيف تأملَّت من أطباء كثيرين. وكان المسيح واقفًا يُصغي باهتمام شديد لأنه يعلم أنها تحتاج للحديث، وللتعبير عما تعانيه منذ سنوات. كان المسيح دائمًا يستمع ويتحدَّث للناس؛ تحدث مع: السامرية، ونيقوديموس، وفي بيت عنيا مع لعازر ومريم ومرثا، ومع تلاميذه، استمع لوالد الشاب المصروع.
الاحتياج للمسة
واحدة من أهم احتياجات الإنسان، التي تجعله يشعر بقيمته وأهميته لدى الآخرين؛ اللمسات الرقيقة الحانية. يحتاج الإنسان لمن يلمسه؛ حيث يشعر بالدفء والأمان ويزول عنه الخوف. فعلها المسيح كثيرًا؛ ومن أشهر الأمثلة لذلك لمسته الشهيرة للأبرص «فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِيًا وَقَائِلاً لَهُ: “إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي” فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ: “أُرِيدُ، فَاطْهُرْ”!» (مرقس١: ٤٠). معروف أن الأبرص نجس، وممنوع أن يلمسه أحد لئلا يتنجس مثله. لهذا كان الأبرص يعيش طوال فترة مرضه محرومًا من اللمس، وهذا أمر قاسٍ جدًا على النفس. لذلك نجد المسيح هنا أول ما يفعله مع هذا المسكين؛ أن يلمسه. هو يحتاج للمسات السيد. ومن المؤكد أن هذا الأبرص قد شُفي نفسيًا بعد هذه اللمسة العجيبة. لم يكن الأبرص هو الوحيد الذي لمسه المسيح؛ لقد لمس الأعمى (متى٩: ٢٩)، ولسان الأصم الأعقد (مرقس٧: ٣٣)، وأمسك ببطرس وهو يغرق (متى١٤: ٣١)، وبيد ابنة يايرس وأقامها (مرقس٥: ٤١)، ويد حماة بطرس فتركتها الحمى (متى٨: ١٥).
الاحتياج للنظرة
الأبناء يحاولون طوال الوقت لفت الانتباه لكي ينظر إليهم الناس. بينما هم يلعبون تجدهم يسترقون النظر من وقت لآخر إلى والديهم. إذا تفوقوا على أصدقائهم يلتفتون بسرعة إلى والديهم ليروا إن كانوا ينظرون إليهم أم لا. الإنسان يحتاج لنظرات الحب، والحنان، والقبول. يحتاج للنظرة التي تصاحبها ابتسامة الرضى. الجميع بلا استثناء يحبون من ينظر إليهم، بنظرات تعبِّر عن الاهتمام. كان المسيح ينظر للناس. يومًا إلتقى بشاب غني فنظر إليه وأحبه (متى١٩: ١٦؛ مرقس١٠: ١٧). لأنه يعلم جيدًا أن الأغنياء يكون حولهم كثيرون يتصنَّعون الحب والتقدير، دون مشاعر حقيقية. لذلك كان المسيح يعلم تمامًا أن هذا الشاب الغني في حاجة لنظرة محبّة حقيقية، وليست تكرارًا لنظرات الحب المصطنعة. لقد استطاع المسيح بنظرة أن يقدِّم رسالة حب كاملة لهذا الشاب، الذي كان يحتاج للحب، هل ننسى أشهر نظرة نظرها المسيح في ختام حياته؛ نظرته لبطرس بعد أن أنكره. لقد نظر إليه بنظرة الحب والاشفاق والاهتمام (لوقا٢٢: ٦١)؛ حتى لا يسقط بطرس في هوة اليأس.
أخي.. أختي..
الله يعلم تمامًا كل احتياج لديك للتقدير والاحترام والشعور بالقيمة؛ وهو وحده القادر أن يسدّد احتياجك هذا مهما كان عظيمًا. ربما تشعر باليأس من شدة الشعور بالاحتياج للاهتمام، والشعور بالقيمة. ربما طلبت من بعض المقربين منك أن يهتموا بك، ولم تجد انتباهًا لما تقول، ولم تجد استجابة حقيقية تلبي احتياج شديد داخلك. ربما حاولت مرارًا كثيرة أن تتحدث إلى والدك ولم تجد وقته يسمح. وربما شعرت باحتياج لقضاء وقت بين أهلك وأصحابك لكن الظروف حالت دون ذلك. ربما أنت في حاجة شديدة لمن ينظر إليك باهتمام، أو من يُصغي إليك كثيرًا. أو من يناديك باسمك معلنًا أهميتك بالنسبة له. أقول لك بملء الفم: المسيح يستطيع أن يعطيك كل ما تحتاج إليه وأكثر، يستطيع أن يلبي كل احتياج داخلك. الأكثر من ذلك أنه يعلم كل ما تحتاج إليه أكثر منك شخصيًا. اجلس أمامه. واقضي أوقاتًا خاصة في الصلاة وقراءة الكتاب المقدس، لتختبر أعظم حب، وأعجب اهتمام لم تختبره من قبل. إذهب إليه بكل ما تحتاج، وتكلَّم معه بكل ما لديك. واسكب نفسك أمامه. وثق أنك لن تعود كما كنت. ولن تقوم من أمامه محمَّلاً بثقل احتياجاتك ومتاعبك. إنما ستمتلئ فرحًا وراحة وسلام.