الاسم «لوقا» - وفي اليونانية “لوكاس” - هو اختصار للكلمة اللاتينية “لوكيانوس” أي “حامل النور” أو “منير” أو “المستنير”. وهكذا يجب أن يكون كل مؤمن حقيقي، بإظهار حياة الرب يسوع المسيح، بنورها ولمعانها في حياتنا، ليتحقق فينا قول الرب: «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ (أي ليظهر المسيح فيكم) هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ (وليس لكي يمدحكم الناس، بل لكي) يُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى٥: ١٦). ولنتذكر أيضًا تحريض بولس: «فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ» (فيلبي٢: ١٥، ١٦).
وكم نشكر الله من أجل “لوقا” الذي استخدمه الروح القدس في كتابة إنجيله وسفر الأعمال، الضوئين العظيمين، اللذان سيبقيان يُنيران للأجيال، ما بقيت الأرض وما عليها! ولم يكن “لوقا” من تلاميذ الرب الاثني عشر (لوقا٦: ١٣)، ولا من السبعين تلميذًا الذين عيّنهم لخدمته (لوقا١٠: ١)، بل كل ما نعرفه عنه ورد في الرسائل، حيث ذُكر اسمه فيها ثلاث مرات فقط (كولوسي٤: ١٤؛ فليمون٢٣، ٢٤؛ ٢تيموثاوس٤: ١١).
وهو لم يكن يهوديًا وإنما يونانيًا (كولوسي٤: ١١)؛ وعليه يكون هو الكاتب الأممي الوحيد في الكلمة المُوحى بها من الله. ولا عجب في اختيار الروح القدس لهذا الأممي الذي يكتب إلى أمميٌّ نظيره: “ثَاوُفِيلُسُ” (لوقا١: ٣؛ أعمال١: ١)، ليُعلن «أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا١٩: ١٠)، وأن إنجيل النعمة هذا هو لجميع الخطاة لكي يجدوا فيه كل بركات الله في شخص مُخلِّصهم الرب يسوع المسيح، دون استحقاق فيهم، ودون عمل منهم.
ولوقا – هذا الرجل الجبار العقل والذهن – كان يحلو له دائمًا الاختفاء ونكران الذات، فلم يضع اسمه مطلقًا ولو في ركن من أركان كتاباته، سواء في البدء أو الختام. ولم يتكلَّم عن نفسه بتاتًا باستثناء ما جاء في سفر الأعمال عندما يُغيّر ضمير الغائب «مَرُّوا... وَانْحَدَرُوا... رَأَى (بُولُسُ) الرُّؤْيَا» إلى ضمير المُتكلِّم «طَلَبْنَا... مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ...» (أعمال١٦: ٨-١٥ وما بعدها).
لقد كان لوقا مُتعلّمًا من سَيِّده الوداعة وتواضع القلب. وإذا كان «الْعِلْمُ يَنْفُخُ» (١كورنثوس٨: ١)، فإنه لم يفلح في أن ينفخ هذا الرجل الذي امتلأ – إلى جانب العلم – بالنعمة التي تحفظه من الغرور والانتفاخ. ومن المؤكد أنه كان متفقًا مع يوحنا المعمدان في قوله: «يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا٣: ٣٠). ليتنا نتعلَّم كيف نُخفي ذواتنا، وليكن شعار كل منا: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية٢: ٢٠).
ولا نعرف كيف آمن لوقا، ولا وقت انضمامه لكنيسة الله. وهو لم يكن مِن شهود العيان الذين رأوا الرب بالجسد، ولا موته وقيامته وصعوده. ومن قصة سفر الأعمال نتعلَّم أنه تعرَّف بالرسول بولس في رحلته التبشيرية الثانية في مدينة ترواس، ورافقه إلى فيلبي. وعاد ليلتقي بالرسول بولس في رحلته التبشيرية الثالثة في فيلبي، ثم رافقه إلى أورشليم، وظل معه مدة سنتين، وهي مدة سجنه الأول في أورشليم قبل ترحيله إلى رومية. ثم كان رفيقًا للرسول وهو في طريق ذهابه إلى رومية أخيرًا (أعمال١٦: ٩؛ ٢٠: ٦؛ ٢٧: ١؛ ٢٨: ١٦). وكان حاضرًا معه حين كتب رسالتيه إلى كولوسي وإلى فليمون.
لقد كان لوقا أداة أعدها الله وجهزها – كعالم وطبيب – وجعله كاتبًا وباحثًا دقيقًا ومقتدرًا، ومؤرِّخًا موثِّقًا موثُوق به. ولكنه يبقى في النهاية خادمًا مسيحيًا مُدافعًا عن الحق الإلهي. وكان لوقا ملازمًا للرسول بولس في سجنه الأول الذي كُتبت منه رسالة كولوسي «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ لُوقَا الطَّبِيبُ الْحَبِيبُ» (كولوسي٤: ١٤). وكلمة «الْحَبِيبُ» تعبير من جانب الرسول بولس لما يفعله معه لوقا. لقد رتب الرب لبولس أن يكون لوقا بجواره رفيقًا وصديقًا يؤازره في حمل خدمته التاعبة الثقيلة، وكان أيضًا عاملاً مع الرسول في خدمته (فليمون٢٤).
وفي سجنه الثاني في رومية لم يبق من رفقاء الرسول بولس العاملين معه غير لوقا، ففي آخر رسائله قبيل استشهاده يقول الرسول بولس «لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي» (٢تيموثاوس٤: ١١). فَمِن رفقائه مَن ذهبوا في مشقات الخدمة. ومنهم مَن اقتنصهم العالم لمحبته مثل ديماس. ولكن كم هو جميل أن يرى الرسول هذا الطبيب الحبيب يقف بجواره عند ختام سعيه وجهاده. وكانت النعمة تُحرك قلبه، وإذ كان طبيبًا كان الرسول في شديد الحاجة إليه بالنسبة للشوكة التي سمح بها الرب له، ولازمت حياته (٢كورنثوس١٢: ٧). وبحسِّه كطبيب كان يسند الرسول بولس أيضًا في مشقات خدمته، وما يتحمله من جَلْدٍ ورجم وضربات كثيرة. وبعنايته الطبية ومساعدته بالعلاج والدواء، كان يُخفف عنه الكثير.
كان لوقا يحمل القلب المُحبّ الجسور الذي يقف في لحظة المحنة إلى جوار صديقه، دون أن يتردد أو يتخلى أو يتراجع أو تبدو منه أقل شبهة في حبه ووفائه وولائه. وكان هو الوحيد الذي ظل أمينًا وبقي مع بولس حتى نهاية حياته. وأمانة لوقا لبولس تتضمن درسًا روحيًا لنا اليوم. فهل نحن مستعدون أن نتمسك ببولس وتعليمه حتى النهاية؟
إن “بولس” يُمثل الحق الإلهي (كلمة الله)؛ فقد أُعطيَّ له أن يكون خادمًا للكنيسة «لِتَتْمِيمِ كَلِمَةِ اللهِ» (كولوسي١: ٢٥)، فقد كان هو آنية الوحي الذي اختاره الرب لإعلان الحق الخاص بالكنيسة كجسد المسيح، ودعوة الكنيسة السَّماوية لانتظار ابن الله من السماء، والحق الخاص بحضور الروح القدس كأقنوم إلهي يسكن في المؤمن (١كورنثوس٦: ١٩)، وأيضًا حضوره لقيادة القديسين عندما يجتمعون للسجود والخدمة (١كورنثوس١٤). ولكن في رسالته الثانية لتلميذه تيموثاوس، والتي تكلمنا عن مشهد الظلمة والشر في الأيام الأخيرة للمسيحية، نقرأ قول الرسول: «أَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا أَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ فِي أَسِيَّا ارْتَدُّوا عَنِّي» (٢تيموثاوس١: ١٥). إنهم لم يرتدوا عن الرب، بل عن الرسول بولس؛ وبولس يمثل أمامنا صوت الوحي وتعاليم المسيحية السامية. ويا لها من صورة تمثل لنا أيام الظلمة الأخيرة التي نحن فيها. فالكثيرون لم يتركوا المسيح، ولم ينكروا إيمانه؛ أي الحقائق اللاهوتية الجوهرية (رؤيا٢: ١٣)، لكنهم بالأسف تحولوا عن كلام الرسول بولس، وتخلّوا عن التعاليم السامية التي نادى بها. فما أحرانا أن نتمسك ببولس وتعليمه حتى النهاية؟ ويا ليتنا لا ندع اليأس يملأ قلوبنا من الحالة العامة، فننفض أيدينا من جهة الحق الخاص بالكنيسة؛ الشهادة الغالية على قلب الله أبينا وقلب ربنا يسوع المسيح، حبيبنا وعريسنا، بل لتتشدد سواعدنا لنكون أمناء حتى النهاية.