مريم أخت هارون وموسى، فتاة يهودية، من سبط لاوي، وُلدت في أرض مصر (عدد٢٦: ٥٩)، من أبوين تقيين هما: عمرام ويوكابد. وُلدت في زمن العبودية، حين «اسْتَعْبَدَ الْمِصْرِيُّونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنْفٍ، وَمَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ فِي الطِّينِ وَاللِّبْنِ وَفِي كُلِّ عَمَل فِي الْحَقْلِ» (خروج١: ١٣).
كانت مريم، وهي طفلة، بَركة لأخيها موسى، حيث استخدمها الله في إنقاذه (خروج٢). وبعد ثمانين سنة، أي بعد عبور شعب الله البحر الأحمر، كانت مرنمة وقائدة للنساء (خروج١٥). لكنها في لحظات الضعف تكلَّمت على موسى رجل الله، فضُربت بالبرص، وتعطلَّت مسيرة الشعب سبعة أيام (عدد١٢)، وماتت ودُفنت في قادش (عدد٢٠).
ونتأمل بمعونة الرب في بعض مواقف من حياتها:
١- تربت مريم في عائلة تقية
عائلة يميّزها الإيمان بالله وعدم الخوف، فأبوها هو «عمرام ابن قهات ابن لاوي» (خروج٦: ١٦، ١٨)، ومعناه الشعب تعالى أو تعظَّم، وهذا يرينا النعمة التي رفعت الذين في المزبلة لكي تجلسهم مع الشرفاء (١صموئيل٢: ٨). وأمها هي «يوكابد بنت لاوي» (خروج٦: ٢٠؛ عدد٢٦: ٥٩)، ومعناها يهوه له المجد. ونجد ارتباط معنى الاسمين معًا في رسالة أفسس، فالنعمة التي اتجهت للأموات بالذنوب والخطايا، أبناء المعصية، أبناءالغضب، ليس فقط خلصتهم، لكن رفعت مقامهم: «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس٢: ٦)، والنتيجة أنه من خلال هؤلاء المؤمنين الله يتمجد في اجتماعهم معًا حول ابنه المحبوب: «لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ» (أفسس٣: ٢١).
٢- مريم تلاحظ موسى وهو في السفط
عندما وُلد موسى، كان هناك أمر ملكي من فرعون ملك مصر، بأن «كُلُّ ابْنٍ يُولَدُ تَطْرَحُونَهُ فِي النَّهْرِ، لكِنَّ كُلَّ بِنْتٍ تَسْتَحْيُونَهَا» (خروج١: ٢٢)، وقد صدر هذا الأمر بعد ولادة هارون وقبل ولادة موسى. لكن أبوي موسى رأيا الصبي جميلاً لله، فلم يخشيا أمر الملك (عبرانيين١١: ٢٣)، فخبأته أمه في البيت ثلاثة أشهر، ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد، أخذت له سفطًا من البردي، وطلته بالحمر والزفت لتحميه من تسرب المياه إليه، ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر.
السفط: وعاء كالقفة أو السلة، مصنوع من أغصان الشجر، توضع فيه الفاكهة، لكن يوكابد صنعت منه سريرًا صغيرًا بمهارة فائقة لابنها. البردي: نبات كالقصب ينمو فى مستنقعات وبِرَك النيل (أيوب ٨: ١١)، وهو نبات طويل تمتد سيقانه إلى أعلى من خمسة أمتار. ولأن سيقانه في غاية المتانه والليونة ويمكن أن تنثني على بعضها بكل سهولة، استخدمت فى صناعة السلال (خروج٢: ٣) والقوارب (إشعياء ١٨: ٢)، وفي بناء الأكواخ. وأوراقه عريضة لذلك استُخدمت في الكتابة والتغليف. الحلفا: نبات يشبه القصب أو الخزران، ينبت عند أطراف المياه، يُصنع منه الحبال والسلال والحُصر. الحُمر: مادة نفطية ذات لزوجة عالية، وذات لون أسود، ويستخرَج من خلال عملية تقطير النفط الخام، ويستعمل إلى اليوم في طلاء المراكب. الزفت: هو الأسفلت.
وقفت مريم أخته من بعيد لتعرف ماذا يُفعل له، كانت تراقب المشهد، وتحرس أخيها وهو في السفط، وتنتظر كل يوم من الصباح وحتى غروب الشمس، إلى أن تأتي أمها لكي تأخذ السفط وبداخله الطفل، وبعدها تنتهي مهمتها حتى صباح اليوم التالي. وهكذا استمر الحال حتى جاء هذا اليوم، الذي شاهدت فيه قدوم الأميرة، ابنة فرعون، في موكب مهيب، تجلس بداخل عربة تجرها الخيول القوية والمزينة، محاطة بالحرس، ثم مجموعة من جواري الأميرة الأنيقات لخدمتها، «فَنَزَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى النَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ، وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأَتِ السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ، فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ. وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ الْوَلَدَ، وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: هذَا مِنْ أَوْلاَدِ الْعِبْرَانِيِّينَ.»
٣- مريم الشجاعة والحكيمة
في هذه اللحظات العصيبة، خفق قلب مريم، وزادت نبضات قلبها، وأحمرَّ وجهها، وتصبَّبت عرقًا، وهى تراقب المشهد. لكن أعطاها الرب شجاعة وحكمة «فَقَالَتْ لابْنَةِ فِرْعَوْنَ: هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟ فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: اذْهَبِي». وهنا شعرت مريم بالسعادة تملأ قلبها، ولمست يد الرب القديرة في تحويل دفة الأمور لصالح شعبه، وأنه مسيطر على الأحداث والقلوب والمشاعر. انتهزت مريم الفرصة، وذهبت «وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: “اذْهَبِي بِهذَا الْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ”. فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ. وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ “مُوسَى” وَقَالَتْ: إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ» (خروج٢).
تصرَّفت مريم بحكمة. والحكمة تأتي من معرفة الرب، فالرب تكلم عن الرجل العاقل والرجل الجاهل (متى٧: ٢٤–٢٧)، العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات (متى٢٥). وأيضًا من معرفة كلمة الله، كما هو مكتوب: «وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي... أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي. أَكْثَرَ مِنَ الشُّيُوخِ فَطِنْتُ، لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ» (مزمور١١٩: ٩٨–١٠٠). وأيضًا من الصلاة، كما هو مكتوب: «وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يعقوب١: ٥). لقد طلب سليمان الحكمة من الرب، والرب استجاب له (١ملوك٣: ٩-١٣).
صار لمريم كرامة وشرف، لأن الرب استخدمها وهى صغيرة في السن، في هذا العمل العظيم، لأنها اشتركت ولو بجزء صغير في تتميم خطة الله، من جهة إنقاذ شعبه عن طريق هذا الطفل الذي في السفط. وأي واحد منا، يمكن أن يستخدمه الله في جزء من عمله العظيم، عندما نكون جاهزين ومستعدين لذلك.
قديمًا سأل الرب قايين قائلًا: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» (تكوين٤: ٩)، لكن هنا نجد مريم تقوم بواجبها في حراسة أخيها وهو طفل. ألا نتعلم من مريم أخت هارون هذا الدرس الهام، وهو الإهتمام بإخوتنا وملاحظتهم، حتى يُحفظوا من الضياع، ليكونوا نافعين ومثمرين للرب مثل موسى، يقول الحكيم: «مَعْرِفَةً اعْرِفْ حَالَ غَنَمِكَ، وَاجْعَلْ قَلْبَكَ إِلَى قُطْعَانِكَ» (أمثال٢٧: ٢٣).