هل المسيح في عظته الشهيرة والمعروفة “بالموعظة على الجبل”، قدَّم دعوة للاكتئاب والحزن، وطوَّب كل من سلك هذا المسلك، عندما قال «طوبى للحزانى»؟ أم أنه كان يقصد شيئًا ومعنى آخر؟
ترى من هم أولئك الحزانى؟ وأي نوع من الحزن يقصده المسيح؟ وما هي المكافأة التي يعدهم بها؟
اسمح لي في البداية، عزيزي القارئ، أن أذكِّرك بالمناسبة التي جاءت فيها العبارة «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» (متى٥: ٤)، والتي هي موضوع حديثنا.
فلقد تحدث الرب يسوع في الموعظة على الجبل، في إنجيل متى والأصحاحات من ٥-٧، عن مبادئ ملكوته وصفات سكان هذا الملكوت. فهو لا يشرح في هذه العظة طريق الدخول لهذا الملكوت، لكن صفات سكانه. واحدة من صفاتهم التي ذكرها الرب هي أنهم قد يبدو عليهم أنهم حزانى، لكن رغم ذلك هم مُقدَّرون ومكرَّمون في عيني الرب نفسه!
أولاً: من هم الحزانى الذين يطوِّبهم المسيح؟
١. بكل تأكيد لا يقصد الرب يسوع تشجيع الحزن والاكتئاب وعدم الفرح إطلاقًا. فالرب يسوع ارتبط ميلاده وتجسده بالأفراح عندما بشَّرت الملائكة الرعاة بالقول «لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ» (لوقا٢: ١٠). وارتبط أيضًا خلاصه بالفرح، فكل من تقابل مع المسيح ذهب في طريقه فرحًا.
٢. لكن هناك حزن يطوبه الرب في حياة المؤمنين «لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ» (٢كورنثوس٧: ١٠). وهذا واضح جدًا في توبة داود عن خطيته والتي صحبها دموع وانكسار وحزن. فالله يكره التوبة الكلامية ويقبل التوبة الصادقة عن الخطية، والتي تتبرهن بالحزن والرجوع الحقيقي للرب. اسمع داود وهو يبكي وينتحب تائبًا عن خطيته قائلاً «تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي. أُذَوِّبُ فِرَاشِي» (مزمور٦: ٦).
٣. وقد يرتبط هذا الحزن المقدَّس بالتجارب التي يتعرض لها المؤمنين كقول الرسول بطرس للمتغربين المتألمين «إِنْ كَانَ يَجِبُ - تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ» (١بطرس١: ٦). فعند تعرُّض المؤمن للتجارب في البرية لا يفرح بل يتألم، ولكنه بالنهاية لا بد أن تكون هذه التجارب سبب تزكية الإيمان.
٤. التأديب الإلهي قد يسبِّب حزنًا! قد يسمح الرب لأحد أولاده بالتأديب والتهذيب لتنقية وتكريس الحياة، أو «لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ». وهذا التأديب قد يسبب شيئًا من الحزن والألم، لكن النتيجة مباركة ونافعة كما يقول كاتب العبرانيين «وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ» (عبرانيين١٢: ١٠، ١١).
إخوتي الأحباء، ما أبعد الفارق بين حزن نجلبه على أنفسنا، بسبب خطايانا وزلاتنا أو اندماجنا في العالم الشرير، وحزن القلب في طريق التدريبات الإلهية «لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ الْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتًا» (٢كورنثوس٧: ١٠).
ثانيًا: ماذا يقدِّم إلهنا لهؤلاء الحزانى؟
يقول الرب يسوع عن هذه النوعية من الحزانى «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» (متى٥: ٤)، أي أن الرب يمنح لهم تعزية وتشجيعًا خاصًا من لدنه. وهذا ما اختبره الرسول بولس فقال «كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ» (٢كورنثوس٦: ١٠).
إذًا ما معنى هذا التعبير «لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ»؟
١. أن العمل الإلهي في قلب التائب يُعتبَر نوع من التعزية «لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ الْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتًا» (٢كورنثوس٧: ١٠).
٢. حصاد البركة في عمل الله هي تعزية «الذَّاهِبُ ذَهَابًا بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ، مَجِيئًا يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ» (مزمور١٢٦: ٦).
٣. تحويل حالة الكآبة لفرح بعد التضرع وطلب وجه الرب « يَا رَبُّ إِلهِي، اسْتَغَثْتُ بِكَ فَشَفَيْتَنِي... حَوَّلْتَ نَوْحِي إِلَى رَقْصٍ لِي. حَلَلْتَ مِسْحِي وَمَنْطَقْتَنِي فَرَحًا» (مزمور٣٠: ١، ١١).
٤. تعزية وسط التجارب التي يسمح بها الرب «الَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ، مَعَ أَنَّكُمُ الآنَ - إِنْ كَانَ يَجِبُ - تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ» (١بطرس١: ٦).
٥. يوم مجيء المسيح. التعزية الأكبر الدائمة «لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ الْمَجْدَ! لأَنَّ عُرْسَ الْخَرُوفِ قَدْ جَاءَ... وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ» (رؤيا١٩: ٧؛ ٢١: ٤).
عزيزي..
هل تشعر بحزن وانكسار بسبب خطاياك؟ إن هذا الشعور وإن كان يسرّ الرب، لكن لا يكفي وحده. تعال إلى المسيح معترفًا تائبًا، فهو سيغفر ذنوبك ويفرح قلبك. أو هل أنت متألم بسبب عالم فاسد لا تجد راحتك فيه؟ ادخل إلى محضر إلهك وتمتَّع بتعزية الروح القدس مختبرًا قول المزمور «عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ، يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعًا» (مزمور٨٤: ٦).
وأخيرًا أرجوك يا صديقي لا تغِر من ضحكات الأشرار العالية، فلقد قال المسيح عنهم «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ» (لوقا٦: ٢٥). لكن لا تنسى ما قاله أيضًا «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ».