جلسنا في مطعم هادئ بإحدى الدول الأوربية بعد يوم طويل ومجهود شاق، وبينما نحن ننتظر الطعام، بدأنا نتجاذب أطراف الحديث. وفجأة لمعت عيني فيلبس خادم الرب الرائع من العراق، والذي يعيش حاليًا بالسويد، ثم بادرنا بالقول: “سأحكي لكم قصتي مع الكتاب الأحمر”. فالتفتنا إليه بانتباه شديد، وكلنا اشتياق لمعرفة قصته مع الكتاب الأحمر!
أكمل فيلبس حديثه وهو يتطلع إلينا وقال:
وأنا طفل صغير لاحظت أمرًا غريبًا كان يفعله أبي كل يوم؛ كان كل يوم في تمام الثانية عشرة ظهرًا يجلس في ركن خاص بالبيت ممسكًا في يديه كتابًا أحمر ويقرأ فيه بمنتهى الاهتمام. كنت أشعر بمجرد أن يمسك بهذا الكتاب أنه ينسى كل ما حوله، ولا يشعر إلا بالكتاب الأحمر. كنت أقترب منه، وأحاول أن أجذب انتباهه بأي طريقة، لكنه لا يهتم، ولا يتطلع نحوي، كأنني غير موجود. تجرأت عدة مرات أن أتكلم إليه في أي حديث؛ بهدف جذب انتباهه، فكان يلتفت إليَّ بنظرة سريعة ثم يعود للكتاب الأحمر مرة أخرى دون كلمة واحدة! وهكذا كان الموقف يتكرر كل يوم؛ أبي يأخذ مكانه في ذلك الركن الخاص، ماسكًا بالكتاب الأحمر، ويغيب عن كل ما يحدث حوله بين سطور ذلك الكتاب العجيب. ازدادت الحيرة بداخلي يومًا بعد يوم. وازداد معه الإصرار على أن أعرف سر هذا الكتاب الأحمر.
وفي يوم من الأيام جلس أبي كعادته في ذات المكان، وأمسك بالكتاب الأحمر؛ فتجرأت وتقدَّمت نحوه وسألته سؤالاً مباشرًا: “أبي، ما هذا الكتاب الأحمر الذي تقرأه كل يوم؟” ففاجأني أبي بردّ فعل عجيب؛ وجدت ابتسامة مشُرقة أشرقت على وجهه الهادئ الرقيق، وتهللت أساريره. ثم رفعني بكلتا يديه ووضعني على ركبتيه، وضمني لحضنه بشدة ثم قال لي: “يا بني، منذ وقت طويل وأنا انتظر هذا السؤال منك”. تطلعت مره أخرى إلى وجهه لأجد ابتسامته تزداد اتساعًا، وإشراقة وجهه تزداد لمعانًا. ثم فتح لي الكتاب الأحمر وهو يقول: “هذا الكتاب هو الكتاب المقدس. كلام الله للبشر. منه نتعلم ونفهم مشيئة الله لحياتنا، منه نعرف من هو الله، ومن هو الإنسان. في هذا الكتاب حياة لنا. وبدونه لا نستطيع أن نعيش. لذلك فأنا أجلس مع الله كل يوم من خلال هذا الكتاب الأحمر يا بُني الغالي”.
كنت استمع إليه في سعادة بالغة، وجلست في حضنه في ذلك اليوم استمتع بحكايات الكتاب المقدس التي كان يحكيها لي مبتسمًا. وأنا أكاد أقفز من شدة الفرح؛ لأنني أخيرًا عرفت سر الكتاب الأحمر، ولأنني في حضن أبي، وأراه سعيدًا بسؤالي هذا.
وبعد عدة سنوات كبرت وتركت بيت أبي وأتيت إلى أوربا، ومات أبي. اتصلت بي أمي وسألتني: هل تريد شيئًا من مقتنيات أبيك الخاصة؟ فأجبتها على الفور: نعم، أريد الكتاب الأحمر. فأرسلته لي. ليذكَّرني دائمًا بذلك اليوم الذي عرفت فيه معنى السعادة الحقيقية في وجه أبي. وقد أخبرتني أمي في وقت لاحق سر غلاوة هذا الكتاب لدى والدي الغالي؛ حيث أنه في فترة الخدمة العسكرية، وأثناء الحرب مع إيران كان هذا الكتاب الأحمر مصدر التعزية الوحيد له، كان يملأ قلبه بالسلام وقت الحرب، ومصدر للحياة رغم الموت المحيط به، وفي عمق الخوف والضيق والألم كان هذا الكتاب هو السبب الرئيسي للفرح والطمأنينة. حتى أنه كان يقرأه على ضوء الشموع في ليالي الحرب الكئيبة، المظلمة.
نظر إلينا خادم الرب فيلبس، بعد أن أنهى قصته، وقد تسللت على وجهه سحابة من الحزن قبل أن يقول: “عندما دخل داعش إلى العراق أخذوا بيتنا، ودمّروه تدميرًا شاملاً، بما في ذلك غرفة مكتب أبي والتي كانت تحوي الكثير من الكتب المسيحية! لكن ما يعزيني بحق أنهم فعلوا ذلك بعد أن صار الكتاب المقدس، أو الكتاب الأحمر، بين يديَّ. أتأمل فيه كل يوم لأجد الغذاء والشفاء والراحة الحقيقية كما علمني أبي.”
القارئ العزيز.. ربما يأتي اليوم الذي نُحرم فيه من نصائح آبائنا وأمهاتنا، وربما نفقد أشياءً كانت من أغلى وأهم ما نملك، لكن المهم أن نكون في الطريق الصحيح الذي يجعلنا نستمر في التقدم، والنمو. رغم ما نعانيه، وما يمر بنا. ولا يوجد أعظم ولا أروع من أن نمتلك كلمة الله، وتمتلكنا كلمة الله، من الرائع أن نخطط في الكتاب المقدس، لكن الأروع أن يخطط الكتاب المقدس في حياتنا.
هل للكتاب المقدس مكان في حياتك؟ هل له الأهمية العُظمى في قلبك حتى أنك على استعداد أن تترك الجميع لتجلس أمامه، وتفهم ماذا يريد الله أن يقول لك؟ هل اختبرت يومًا قول الكتاب «لِذلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرّ، فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَة الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ» (يعقوب١: ٢١). فالكلمة الحية حينما تنغرس في قلوبنا هي قادرة أن تخلص نفوسنا، وتحرِّرنا، وتُغيرنا بالتمام. الكلمة التي قال عنها المسيح يومًا: «أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا» (لوقا٨: ٢١). وكيف نسمع ونعرف الكلمة إلا بالجلوس أمامها، والإصغاء لما يقوله الرب لنا من خلالها. طوبى لمن يعرف قيمة كلمة الله، المكتوب عنها أيضًا «حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ» (عبرانيين٤: ١٢). فكلمة الله تكشف حالة القلب وتعالجه، وهي بمثابة نور للطريق، ومرآة للنفس، ومطرقة تحطم الصخر. لنا فيها كل العزاء والفرح. تجيب عن تساؤلاتك، وتُهدئ من حيرتك، وتُطمئن قلبك المضطرب. لذا يجب أن تكون لها الأولوية في حياتك، حتى تعرف كيف تعيش هذه الحياة بصورة صحيحة. بدون كلمة الله لا تجد لحياتك معنى ولا قيمة؛ لأنك لن تعرف الهدف من وجودك، ولا مشيئة الله في حياتك.
من الآن خذ قرارك بالمكوث في حضرة الرب أوقاتًا طويلة لتفهم مشيئته، وتمتلئ من معرفته. خذ قرارك بأن تعود للكلمة في كل أمور حياتك، وتمتع بسماع صوت الرب لك. ستشهد تغييرًا عظيمًا وعجيبًا في كل أمور حياتك. وستجد أن حياتك صارت أجمل بكلمة الله. وبعد أن تختبر عظمة الكتاب الذي بين يديك ستهتف بأعلى صوتك مع داود «لِكُلِّ كَمَال رَأَيْتُ حَدًّا، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا» (مزمور١١٩: ٩٦).