«فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن». إذا قرأت هذه العدد من سفر التكوين ٣٩: ٢٠ كما هو مكتوب هنا، ألا تتحيَّر مثلي: مَن الذي أخذ مَن ووضعه في السجن؟ هل تتبدل الحيرة بحركة تشكيل واحدة؟ ماذا إذا كانت «فأخذ يوسفُ سيدَه...» أو «فأخذ يوسفَ سيدُه...»؟ الفارق كبير! ببساطة، الفارق في مَن الفاعل ومَن المفعول به. وأتركك ترجع للنص الكتابي لتعرف أيهما يقصد، لأتحدث معك الآن عن الفارق بين الفاعل والمفعول به. مهلاً.. لا تنصرف؛ لا أقصد الفارق اللغوي! أقصد تطبيقًا عمليًا.
كثيرون يعيشون في وضع ”المفعول به“؛ يستسهلونه ويعتبرونه طبيعيًا. فتجدهم تابعين لغيرهم، يحاكونهم شاعرين بالأمان في ذلك. تجدهم قانعين بدور ”التابع“ للآخرين، فيفعلون ما يفعله الآخرون، لا لسبب أو لقناعة معيَّنة، بل لمجرد أن الآخرون يفعلون.
ومن الطبيعي أننا في أحوال كثيرة نكون ”مفعولاً به“ عندما لا تكون الأمور نابعة من قرارنا. ففي اختيار أسمائنا وأماكن سكننا و... نحن كذلك. لكن عندما يكون الأمر متعلقًا باختياراتنا وقراراتنا؛ فالله يريد كل منا أن يكون ”فاعلاً“، فقد خلقنا لأعمال صالحة (أفسس٢: ١٠).
ودانيآل مثال رائع لذلك. أدعوك لتقرأ قصته مرة جديدة، في السفر المسمى باسمه، لنتعلم منه الكثير.
مؤثِّر أم متأثر؟
إنه لم يختَر اسمه، ولا اختار أن يذهب إلى السبي، ولا طلب أن يكون في قصر الملك. لقد كان في كل ما سبق ”مفعولاً به“. لكنه هناك؛ في بابل منبع شرور العالم ورمز كل ما هو بغيض، وتحت سلطة حاكم شرير قاسٍ مستبد مثل نبوخذنصر، بدون دعم من أسرة ولا معونة من قائد أو مرشد روحي ولا قدوة من أحد. بالرغم من كل هذا، قرَّر أن يكون ”فاعلاً“.
لقد رفض أن ”يتأثر“ بالأغلبية، فنقرأ عنه القول الشهير «أما دانيآل» (دانيآل١: ٨). وللحرف ”أما“ معناه العميق. إنه يعني أنه رغم أن كل من في حاله رضخ، راغبًا أو مرغَمًا، لأطايب الملك وخمر مشروبه؛ إلا أن دانيآل لم يتأثر بقرارهم، بل جعل في قلبه ألا يتنجس.
وهذا الذي رفض أن يتأثر بخطإ الآخرين حتى لو كانوا الأغلبية، ليس من الغريب أنه صار مؤثِّرًا. لقد كان وحده في البداية، لكن سرعان ما بان تأثيره في ثلاثة آخرين فأصبحوا أربعة أبطال. ثم لقد أثر فيمن حوله، حتى الملوك أنفسهم تغيَّر موقفهم من إله دانيآل ورفقائه تأثّرًا بمواقفهم. بل لا أبالغ أن قلت إن دانيآل أثر في التاريخ كله بنبواته.
ماذا لو كان دانيآل خضع للأغلبية ورضى بوضع ”المفعول به“، هل كنا سنسمع عنه أم كان سيمضي كباقي من مضوا دون أن يبقى لهم ذكر؟ فماذا عني وعنك؟!
صاحب مبدأ رغم المعوقات
لم يكن الأمر سهلاً بل كانت التحديات صعبة. لقد تعرض أبطالنا الأربعة لمحاولات رهيبة لطمس هويتهم لتنسيتهم من هم في حقيقتهم.
كانت البداية تغيير لغتهم ولسانهم. لم تكن المسألة مسألة ثقافة، بل لإبعادهم عن لغة العهد القديم لعزلهم عن كلمة الله. وما زالت مثل هذه المحاولات تجري علينا إذ يحاول الشرير إبعادنا عن كلمة الله بدواعٍ مختلفة كالثقافة والتقدُّم... فليتنا نفعل كدانيآل الذي مع أنه تعلم الكلدانية (ولم ينعزل عن المجتمع) إلا أنه بقي تلميذًا للكتاب المقدس (دانيآل٩: ٢).
ثم إنهم تعرضوا لتغيير أكلهم، وفي ذلك احتمال أن يتنجسوا بأطعمة تنهى عنها الشريعة أو ذُبحت لأوثان. والطعام هو ما يعتقد الإنسان أنه يحيا عليه. فإن كنت تتغذى على الميديا ومواقع التواصل والعلاقات... ولا يمكنك الاستغناء عنها، فقد صارت طعامك. تذكَّر أن هناك خطر أن تتسبب بعض هذه الأشياء في تنجيس فكرك وحياتك. كذلك تذكر أنه «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بالـ(ضع ما تعتقد أنك تحيا به هنا) وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ» (متى٤: ٤). ليتك تفعل كدانيآل فتأبى أن تتنجس.
كذلك تعرضوا لتغيير أسمائهم لتنسيتهم ارتباطهم بإلههم (دانيال = الله قاضيَّ، سًمي بلطشاصر = الذي يرضى عنه ”بيل“، وحننيا = الله حنّان، سًمي شدرخ = الذي يشدده ”رخ“، وميشائيل = من مثل الله؛ سًمي ميشخ = من مثل ”آخ“، وعزريا = الله يقوي، سًمي عبد نغو = عبد ”نغو “وكلها آلهة وثنية). لكنهم أثبتوا أن العدو يغير الاسم من الخارج لكنه لا يستطيع أن يغيّر القلب.
المؤثر والآخرون
كون دانيآل غير تابع لم يكن يعني مطلقًا أنه انعزل وانفصل عن الآخرين، بل بالعكس. لقد كان مهتمًا بالآخرين؛ فنراه طلب من أجل رفقائه، واهتم بمصير زملائه في العمل. كان سبب فائدة لمن حوله؛ فنجّى الحكماء من الموت، وأنقذ ملوك من حيرتهم. كان سبب بركة باستمرار.
كما حظي باحترام معاصريه، فالأسر المالكة قدّرته، وحتى أعداؤه لم يمسكوا خطأً عليه.
لقد كان بحق «مِلْحُ الأَرْضِ... نُورُ الْعَالَمِ» (متى٥: ١٣-١٦). فحفظ نفسه بل ومجتمعه من فساد بيِّن، كما أنار الطريق لكثيرين.
كيف صار فاعلاً؟
١. التصميم (المبدأ الثابت). القول «فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ» يعني أنه صمَّم بكل إرادته أن يأخذ صف الله وطريقه. لقد كان على استعداد أن يتكلف ما يتكلف في سبيل ذلك. لم تُرجعه المخاوف برعبها ولا الأسود بزئيرها.
٢. الاتكال على الله. لم يكن يرى في نفسه الكفاءة ولا تكلم عن إمكانياته يومًا. بل كان كل اعتماده على الله وإمكانياته. وهنيئًا لمن فعل مثله.
٣. التكريس. لقد اعتبر أنه يعيش في هذه الحياة ليكرم سيده، وإلا فالموت أفضل. لم يُغرِه النجاح يومًا أن ينسب الكرامة لنفسه بل كان يُرجع المجد دائمًا لإلهه.
لقد كان دانيآل فاعلاً ناجحًا بكل المقاييس، فهل تشتاق أن تكون مثله؟! أتركك مع هذه التشجيعات:
«لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (فيلبي٢: ١٣).
«كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ... لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ. وَلِهذَا عَيْنِهِ - وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ - قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ...» (٢بطرس١: ٣-٧).