اتصل بي صديقي الأستاذ منير الذي سافر إلى أمريكا منذ عدة شهور وكان قبل الاتصال بيوم أرسل لي رسالة على الـ inbox يطلب فيها الصلاة من أجله لأنه يشعر بألم شديد في قدمه بسبب زيادة في نسبة حمض اليوريك. وبمجرد الاتصال بادرني بالقول: “صلاتك استُجيبت، والألم خف والحمد لله.” فقلت له: “أنا لسة مخلَّص صلاة من أجل كل المتغربين خارج البلاد وداخلها.” فقال لي عبارة أخذت الحديث إلى منعطف آخر. فقد قال لي: “يا ريت تصلي من أجل المتغربين عن ربنا وده الأهم.” فقلت له: “صحيح يا أستاذ منير لأنه يوجد نوعين من الغربة، غربة جغرافية وغربة روحية. والغربة الروحية أصعب من الغربة الجغرافية”. وبعد أن أنهينا الحديث، بدأت الأفكار تتوالى على ذهني عن نوعي الغربة؛ وهذا ما دفعني إلى كتابة هذا المقال. فتعال بنا عزيزي القارئ نتأمل معـًا في نوعي الغربة.
أولاً: الغربة الجغرافية
وهي التي تفصل الإنسان عن أهله وأصدقائه ومجتمعه الذي عاش فيه طفولته حيث تشكَّلت شخصيته من خلال الثقافة التي تربى عليها والعادات والتقاليد.
تأثيرات الغربة الجغرافية: التعب النفسي والحنين إلى الأهل والوطن والأصدقاء؛ فمهما فصلت المسافات بينه وبين أهله ولكن قلبه ومشاعره وأفكاره تكون متعلقة بجغرافيـَّة طفولته.
ولكن مع كل هذا الحنين وكَمِّ الأنين، فإذا كان هذا الشخص المغترب جغرافيًا له علاقة حية مع الله، فالله يرسل له معونات وهو في هذا المكان حتى وإن كانت فيه معاناة. وأوضح مثال على ذلك هو الشاب يوسف، مضرب الأمثال في الطهارة ومخافة الرب، فبالرغم من كل المعاناة التي واجهها في الغربة من ذُلٍ وظلمٍ وأنينٍ، لكن كان في حالة الشركة الدائمة مع الله، وعندما عُرِضَت عليه الخطية قال قولته الشهيرة: «فَكَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تكوين٣٩: ٩).
ثانيـًا: الغربة الروحية
وهذه أشد وأقسى من الغربة الجغرافية، وهي الاغتراب عن الله. فعندما خلق الله الإنسان، نفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسـًا حيَّة. فالإنسان نفخة من القدير، وعندما ينفصل عن الله يعيش حياة الاغتراب الروحي. وهذا ما وصفه الرسول بولس قائلاً: «إِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ» (أفسس٤: ١٨-٢٠). وهنا نلاحظ أن المتغرّبين غربة روحية وصفهم الرسول بولس بهذا الوصف السباعي الدقيق:
١. ظُلمة فكرية: وما أشد الظلمة الفكرية التي تعم كل إنسان مغترب عن الله، بل هذه الظلمة نراها تجتاح العالم كله بصورٍ متعدِّدة من أفكار وفلسفات غريبة، سواء الذين يسعون وراء الخرافات المصنعة (٢بطرس١: ١٦)، أو الخرافات العجائزية المرتبطة بالنجاسة (١تيموثاوس٤: ٧)، والتي تبيح الشر في صوره المختلفة، والمعتقدات الخاطئة؛ حتى وصلت هذه الظلمة الفكرية بهم إلى التشكيك في صدق كلمة الله وجعلت الأحداث والشخصيـَّات التي في سفر التكوين مجرد قصص رمزية.
٢. جهل مطبق: وهذا ما وصفه الكتاب قائلاً: «قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلهٌ. فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا. اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟» (مزمور١٤: ١-٢). فالجهل ينكر وجود الله، ويعمي الأذهان لا عن إعلانه عن نفسه من خلال الكلمة المكتوبة فقط بل أيضـًا إعلانه عن ذاته من خلال قراءة كتاب الطبيعة الذي ترنم به رجل الله داود قائلاً: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل يُبْدِي عِلْمًا» (مزمور١٩: ١-٢).
٣. غلاظة القلب: من يغترب عن حياة الله يتسم بالقسوة وغلاظة القلب والعنف الذي نراه في العالم الآن من عمليات إرهابية وقتل وعنف ودماء تلحق دماء.
٤. فقدان الحس: المشاعر الإنسانية الطبيعية قد ماتت. وها نحن نرى الفساد الذي عم العالم، وعدم الانتماء، وسرقة البشر بما فيها سرقة الأعضاء. وهذا ما وصفه الكتاب عن الناس المتغربين غربة روحية؛ يقول عنهم: بلا حنو أي يتميزون بالشراسة. وما نراه في عالم الجريمة اليوم خير دليل على فقدان الحس.
٥. الدعارة: وهي ممارسة الرزيلة بصورة علنية، ويتخذون منها مصدرًا لكسب العيش. وهم الذين قال عنهم الكتاب يشربون الإثم كالماء أي يتغذون على النجاسة بصورة علنية.
٦. النجاسة: وهي تشويه الصورة الرائعة والبديعة التي خُلِقَ عليها الإنسان والتي رآها الله وقال عنها «حسن جدًا» يوم خُلِق؛ فقد تشوهت هذه الصورة باغترابه عن الله. تشوهت الصورة التي كانت جميلة بكل المقاييس، وأصبح التلوث السمعي والبصري من خلال النت والفضائيات والأفلام الدنسة، كل هذه انعكست على الإنسان من الداخل والخارج فتشوهت الصورة الجميلة التي خلقه الله عليها.
٧. الطمع: ما يميز المغترب عن الله، عدم الاكتفاء الذي يقود إلى الطمع، وهذا ما قاله الكتاب أن الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن (جامعة١: ٧)؛ فكل خلاف على المستوى الشخصي أو الأُسري أو المجتمعي أساسه الطمع. والطمع بحسب تعريف الكتاب هو عبادة أوثان.
عزيزي القارئ هذه هي حياة المغترب عن الله وهذه هي سمات الغربة الروحية، فإذا كنت ما زلت بعيدًا عن الله وتعاني من الوحدة والإحباط والاكتئاب، فلا خلاص من كل هذه الأمور إلا بالرجوع إلى الله، بل إذا وصلت بك الأمور إلى مستنقع الرزيلة فالله يدعوك الآن: تعال إليه وسلم ليه وحط حياتك بين إيديه. وتأمل في كلمات الترنيمة التي تقول:
ياللي مش لاقي لحياتك أي معنى
أيوة عايش بس عيشة بطعم موت
كل ما تفوق من جراحك تلقى طعنة
والصراخ مكتوم في قلبك ما له صوت
والألم باين عليك والندم مالي عنيك
قوم تعال للي حبك،
قوم تعال للمسيح