الازدواجية اليومية
لفترات طويلة، كان ساكنًا في أذهان الكثيرين، أن العمل هو المعطل الدائم للحياة الروحية الصحيحة، وأنه شر لا بد منه في الحياة، وأنه لا يستقيم أن يكون الإنسان ناجحًا جدًا في عمله، ويكون أيضًا ناجحًا جدًا في خدمته ودعوته.
بل أنهم جزموا أنه هناك الكثير من المهن والأعمال التي لا يمكن أن ينجح فيها المؤمنون الأتقياء؛ فلا يوجد مهندس حازم بدون أن يهين عماله، ولا يوجد تاجر ناجح بدون أن يلتوي مع زبائنه، ولا يوجد صيدلي أمين بدون أن يكذب على مرضاه، ولا يوجد محامي تقي بدون أن يخدع موكليه، وهكذا.
وكانت النتيجة المؤسفة لهذا الأمر، هي إصابة الكثيرين بما يمكن تسميته بـ“الازدواجية اليومية”، فيسلك الإنسان المؤمن صباحًا بلغة السوق وأخلاقيات عمله مهما كانت، ولسان حاله “على قد فلوسهم” أو “كله بيعمل كده” أو “أهي شغلانة والسلام”، أما في المساء، فيخلع ثوبه الصباحي المتسخ، ويلبس ثوب التقوى المركون، ويبدأ في التعبد والترنيم والسجود لله!!
النظرة الخاطئة
والحقيقة أن ما ساعد على استشراء الحالة الصعبة السابقة، هو تعامل الكثيرين مع العمل على أنه مجرد مرحلة عابرة، وأنه على الخادم المكرس أن يتركه آجلاً أو عاجلاً، ويظنون أن هذا التفرغ هو قمة الهرم التكريسي للمؤمن، متغاضين على مدى تكلفة هذا القرار الخطير، وأنه الاستثناء وليس القاعدة، وأنه لا بد أن يخضع لدعوة الله الخاصة، وأن تتم في توقيت الله وليس توقيت البشر.
وهذا جعل كثير من الناس تربط التكريس فقط بالخدام غير العاملين، وتندب حظها أنها لم تنضم لهم، أو تشعر بالذنب أنها فشلت في رحلة التكريس مثلهم، فتنتظر أن تتحرَّر من أعمالها، وأن يأتيها الصوت الإلهي: هيا أترك عملك.. وكرس حياتك لي.
العامل التاريخي
وهنا يجب علينا، أن نطالع الأساس الحقيقي للعمل بحسب الكتاب المقدس، والذي يظهر من خلال قصة خلق الله للكون في الأصحاحين الأولين من سفر البدايات؛ والذي يلفت انتباهنا فيه أنه يذكر أكثر من ١١ مرة عن الله أنه “عمل”، ولذلك أتجاسر وأقول – بكل هيبة وشرف – أن الله هو أول عامل في التاريخ.
فنقرأ مثلاً «فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ... فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ... فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ... وَقَالَ اللهُ: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا... وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًا... وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِل. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ... لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقًا... يَوْمَ عَمِلَ الرَّبُّ الإِلهُ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَات» (تكوين١: ٧، ١٦، ٢٥، ٢٦، ٣١؛ ٢: ٢-٤).
الغرض الأصلي
وبما أن الإنسان هو مخلوق على صورة الله؛ فقد أمر الله “العامل” صورته أن يعمل مثله، فنقرأ «وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا» (تكوين٢: ١٥). وعمل آدم هنا ليس لجلب المال وتسديد احتياجاته؛ فالله القدير متكفل بها، وهو يسكن جنة تجري فيها الأنهار.
ولكن عمل آدم يتيح له تمجيد الله خالقه، ويتيح أيضًا لله أن يعلِّمه الكثير من الأمور التي تنفعه، وقد شرَّعه الله له قبل الزواج، لأنه يدرك أن العمل مقدّس، وأنه ليس من نتائج الخطية، وأنه لا يمكن أن يكون معطلاً لا عن علاقته الروحية مع الله، ولا عن علاقته الزوجية مع حواء.
وهنا لنا درس عملي هام؛ فطالما أن الله رتب العمل، ورتب الزواج، ويرتب الخدمة، فلا يمكن أن تتعارض هذه العناصر الثلاثة مع بعضها (إن كانت فعلاً من عند الله)، وبذلك لو وجدت واحد يقول لك إن عملي عطلني عن الله، أو أخر يتحجج أن العمل أبعدني عن أسرتي؛ إذًا فأحدهما ليس من الله، لأن الله لا يناقض أبدًا نفسه.
الفوائد المزدوجة
والأمر لا يتوقف على ذلك، ولكن العمل في مشيئة الله له فوائد رهيبة؛ ففي عملك، أنت تحتك بأصناف كثيرة من البشر، لهم خلفيات متعددة، وهذا يتيح فرص ذهبية، لكي يشع من خلالك نور المسيح إليهم، وحينها يتم الكلام الملكوتي: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ أنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل... فليضيء نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى٥: ١٣، ١٤، ١٦).
وبما أن أهمية الإضاءة تزداد وسط الظلام، فلمعان الشهادة يزداد وسط الأعمال التي تبدو فاسدة، وهذا يبرز أهمية وجود المؤمن في المهن الصعبة؛ فاستقامة دانيآل ظهرت في عدم أمانة من حوله، وقداسة يوسف ظهرت في نجاسة من يسكن معهم، وأمانة مردخاي ظهرت في مؤامرات غيره.
وليس هذا فقط، ولكن هناك فوائد روحية كثيرة ستأتي إليك من خلال عملك، لأن العمل له ضغوط متعددة (الوقت والمال والمديرين)، وهذا يجعل نفسيتك أكثر مرونة مع من حولك، وأكثر تقبُّلاً لكل إخوتك المؤمنين مهما كانت عيوبهم، وأيضًا تجعلك أكثر تحمُلاً لضغوط الخدمة؛ سواء التعامل مع الخطاة، أو الجاهزية لحروب إبليس، أو القيادة لرؤيا مميزة من الله لك.
عزيزي القارئ، لو كنت تعمل، فاشكر الله على عملك، بكل ما فيه من تحديات، وشخصيات لا تروق لك، لأن سلطان الله سيستخدم كل هذا لخيرك الروحي قبل الزمني. وإن كنت شابًا لم تعمل بعد، فاطلب من الآن عمل في ملء مشيئة الله. وفي كل الحالات استقِ مفاهيم العمل ومبادئه من كلمة الله وليس من طباع المجتمع، ووقتها ستكون في الصباح مثل المساء، وفي العمل مثل الكنيسة، وتمجِّد الله أينما وحيثما وجدت.
ج: العمل ليس ضد التكريس، لكنه مقدَّس، ولازم لشهادتنا وشخصياتنا.