في بداية تاريخ الكنيسة وأيام الرسل، لم يفكَّر خُدَّام المسيح أن الكرازة قاصرة على أشخاص معيَّنين أو كانت تقدم في مبنى معين، أو وقت معين؛ بل حينما وحيثما تتاح الفرصة لهم، كانوا، بقلوب ملتهبة بالمحبة للرب وللنفوس، يقدِّمون بشارة الانجيل مهما كلفهم الأمر.
“المؤمنون الأوَائِلِ عُرِفوا بغيرتهم في الكرازة. الجندي يحاولَ رِبْح المُجنَّدين لرب الجنود السماويِ؛ السجين أرادَ جذب سجّانِه إلى المسيح؛ تهمس بنتُ العبدَ برسالة الإنجيل في آذانِ رفيقتها؛ تكلم الزوجةُ زوجُها لكي يؤمنُ؛ كُلّ شخص تذوق حلاوة الايمان حاول جذب الآخرين إلى الإيمانِ” (جون فوكس).
كانت الكرازة أسلوب حياة، هكذا كانت وهكذا قصد الرب أن تكون في كل تاريخ الكنيسة. هل ما زلت تقول: أنا لا أمتلك موهبة الكرازة أو لست خبيرًا بطرق الكرازة؟ قال أحدهم “الإنسان يبحث عن طرق للكرازة، لكن الله يبحث عن إنسان يريد أن يكرز”. وهي ليست مهمة المتفرغين للخدمة فقط، بل لكل مؤمن مأسور بمحبة المسيح ويقدِّر قيمة النفوس التي مات المسيح من أجلهم.
أربع صور لمن يعمل عمل الكارز
١. الكارز “مزارع واثق” يلقي البذار: المبشِّر كالفلاح الذي يحرث التربة الحجرية الصعبة بمعاول الكلمة الممتزجة بقوة الروح القدس، ويرويها بدموع الصلاة، ويلقي بذار بشارة الإنجيل مثابرًا وصابرًا حتى يشهد الحصاد البهيج والثمر الوفير. «اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ» (مرقس٤: ١٤). هكذا يقدِّم المبشِّر بشارة الخلاص - كالزارع - بذار الكلمة الحية واثقًا أنها تحمل حياة الله للنفوس المائتة، واثقًا أيضًا أن تعبه ليس باطلاً في الرب لأن كلمة الله لا ترجع إليه فارغة.
٢. الكارز “مذيع صادق” يحمل أخبار: «لأَنَّكُمْ إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ، قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ» (١تسالونيكي٢: ١٣) «لأَنَّهُ مِنْ قِبَلِكُمْ قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ» (١تسالونيكي١: ٨). المبشِّر دائمًا (كما نفهم من معنى الكلمة) لديه بشارة، يذيع أخبارًا سارة. فيها رجاء البائسين وخلاص مؤكد للتائبين. بشارة خير وسلام. أعظم خبر فيه كل الخير هو أن المسيح أحب الخطاة ومات من أجلهم ليكون لهم حياة أبدية. يا له من خبر طيب ونفيس لكل خاطئ ضال تعيس.
٣. الكارز “صياد ناجح” يجوب البحار: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ» (مرقس١: ١٧). إن المبشِّر صياد بوصف الرب، مجال عمله هو العالم. قد يلتقي بفريق من النفوس الضائعة الغارقة في وحل النجاسة والشهوات، ومنهم من يسبح باجتهاد في بحور الشهرة والإنجازات، وفريق آخر قد أُنهكت قواه في مواجهة أغمار هموم الحياة... الخ. وكل فريق ينجذب بطُعمٍ مميت وضعه ذلك الصياد الأثيم، قتَّال الناس. بينما هناك صياد سماوي يلقي شبكة نعمة الله في هذه البحور مقدِّمًا خبز الحياة وماء الحياة الأبدية، هو المبشر، لا يصيد النفس ليميتها كما يفعل الشيطان عدو النفوس، بل لكي يقدِّم لها الحياة الأبدية في المسيح.
٤. الكارز “تاجر رابح” يقوم باستثمار: «رَابحُ النُّفُوسِ حَكِيمٌ» (أمثال١١: ٣٠). يستثمر خلاص المسيح الثمين، ونعمة الآب المحب الرحيم. يستثمر الموهبة المضرَمة والفرصة القائمة والوسائل المتاحة، تقليدية كانت أم متقدمة، لكي يربح نفوسًا غالية. يربحهم لله بنعمة الله وبحكمة من عند الله ليخلِّص على أي حال قوم. فالمبشر كأي تاجر لا يخاطر بعمل مكلف ومضني دون أن يرى العائد الكبير. نعم، يرى بمنظار الأبدية والمقاييس الإلهية أن ربح نفس واحدة هو ربح عظيم يفوق أي أثمان ولا يساويه كل كنوز الزمان.
أربعة مؤهلات في شخصية الكارز
١. قلب الكارز: ملتهب وممتلئ بالمحبة الشديدة للنفوس الضائعة ويتوق لخلاصها، يفيض حنانًا وإشفاقًا على البائسين والمحرومين. المبشر الأمين له قلب رقيق مثل قلب المخلِّص الحبيب.
٢. فم الكارز: يشهد بشجاعة ومجاهرة بسر الإنجيل في وقت مناسب وغير مناسب. لا يقدر أن يكون صامتًا وهو يرى نفوسًا مات عنها المسيح تمضي في طريقها للعذاب الأبدي دون أن يصرخ لينقذ المنقادين إلى الموت والممدودين إلى القتل.
٣. ركبتا الكارز: يتميَّز بحياة الصلاة والصوم وسكب القلب والتضرع الدائم للرب من أجل خلاص النفوس. المبشر يتميز بأنه مجاهد في الصلاة. إن سر القوة في عمل المبشر تكمن في ركبتيه ودموع عينيه وليست في بلاغة كلامه أو تعبيراته.
٤. قدمي الكارز: أقدام تجول ببشارة الخير والسلام. ما أجمل تلك الأقدام التي تتعب في البحث عن الضال حتى تجده.
الكرزة في أماكن مختلفة وظروف مختلفة لفئات مختلفة
في زمن سفر الأعمال، على سبيل المثال؛ قُدِّمت البشارة بالإنجيل في أماكن مختلفة ومن شخصيات مختلفة وفي ظروف مختلفة: في مكان عام في أورشليم، وبجانب شاطئ النهر في فيلبي، وفي سوق أثينا، وعلى منصة عامة في أريوس باغوس، وعلى سلم قلعة في أورشليم، وفي مجمع يهودي في كورنثوس، وفي بيت كرنيليوس في قيصرية، وفي الطريق العام لغزة، وفي بيت أخ في ترواس، وفي منزل مؤجَّر في روما، وفي سجن في روما، وفي قصر الحاكم في قيصرية، ومن على ظهر سفينة... إلخ.
لذلك، لا غرابة إن سمح الله في حكمته بظروف معاكسة ومقاومة شرسة. لأنه من خلالها يحقِّق قصدًا مباركًا وهو خلاص النفوس، من خلال السجن وسرير المرض أو حادث صعب، يمكن أن تصل بشارة الإنجيل السارة إلى ولاة وملوك وضباط وجنود ومساجين ومرضى ورجال أعمال، نساء ورجال... إلى متدينين أو وثنيين، يهود أو يونانيين ورومانيين... البرابرة وسكان الجزر... لأن كلمة الله لا تقيَّد، وحكمة الله تُخرِج من الشرِّ خيرًا ومن وراء الضرر الوقتي دررًا أبدية. أعظم خير في الزمان هو خلاص النفوس للأبد. «اعْمَلْ عَمَلَ الْمُبَشِّرِ» مهما كانت شخصيتك وظروفك وطبيعة خدمتك يمكنك أن تكون كارزًا رابحًا وتجمع ثمرًا للحياة الأبدية.
هبني يا إلهي رؤيةَ الإيمانِ
حتى أنظُرَ نحو الحقولْ
فأرى الحصادَ يملأُ البقاعَ
وكذا الجبالَ والسهولْ
النفوسُ جاعتْ، النفوسُ ذابتْ
النفوسُ تطلبُ النجاةْ
فأعني حتى أشهدُ بحبٍ
أنك الطريقُ والحياةْ