ولد الكونت نيكولاس زنزيندورف عام ١٧٠٠ في عائلة أرستقراطية لكنها تقية. مات أبوه عندما كان عمره ستة أسابيع؛ لهذا السبب تربى الطفل الصغير مع جدته وهي سيدة تقية معروفة في حركة التقويين، وكانت قريبة من رائد هذه الحركة فيليب سبينير. تربى وسط عائلة تحب الرب يسوع بإخلاص. قال زنزيندورف عن طفولته المبكرة “في طفولتي، بدأت أطلب الله بكل قلبي، وقررت من شبابي المبكر أن أصبح خادمًا حقيقيًا للمسيح”. اشتهى زينزيندورف أَنْ يَعْرف المسيح من خلال علاقة قوية تجعله أكثر قربًا منه. تأثَّرتُ جدًا لما قرأتُ قصة حياته، خاصًة هذه الكلمات التي كتبها وسكب فيها عصارة قلبه: “لدي شوق واحد، وهو المسيح، المسيح وحده”. تأججت هذا الأشواق حين رأى لوحة فنية لرأس المسيح المُكلَّل بالأشواك موثق اليدين، للرسام “دومينيكو فينتي” - حين عُرِضت الصورة في المعرض الفني بدوسلدورف بألمانيا - وكان مكتوبًا أسفل الصورةِ باللغة اللاتينيةِ، هذا التعليق الشهير المؤثر: “هذا ما فعلته من أجلك.. وأنت ماذا فعلت من أجلي؟”. كان له دور كبير في حركة المورافيين Moravians التي ساهمت في نشر الإنجيل بالإرساليات، لأماكن كثيرة محرومة في العالم، خلال القرن الثامن عشر. جاءوا من مقاطعة مورافيا (في تشيكوسلوفاكيا سابقًا)، ولجأوا إلى المنطقة التي كان يحكمها زينزيندورف، فرحَّب بهم وتوطَّدت العلاقة بالشركة المسيحية واجتماعات الصلاة، وقرر أن يضع يده في أيديهم ليخدموا الرب معًا. كان زينزندورف رجل صلاة يثق في تأثيرها، والنهضة في العمل المرسلي التي حدثت في أيامه بدأت بفرصة لسكب القلب في الصلاة بحرارة طوال ساعات الليل في مدينة هرنهوت الصغيرة، ثم استمر اجتماع الصلاة يُعقَد بمواظبة لسنوات طويلة، كأنها نار متقدة على المذبح لا تنطفئ.
عدد المرسلين من المورافيين في العام الأول تعدى السبعين مرسلاً، وبلغ عدد المرسلين حول العالم في نهاية القرن الثامن عشر حوالي خمسة عشر ألف. فكانوا يبيعون أنفسهم عبيدًا ليصلوا الى قبائل وجزر لم تسمع عن المسيح وفي ذات الوقت لا تقبل أجانب إلا العبيد فقط. تعرَّف “جون ويسلي” على الرب بواسطة واحد منهم، ووذكر في مذكراته شهادة مؤثرة عن تكريسهم المدهش، وتضحياتهم العظيمة حتى الموت، وشجاعتهم وتواضعهم، وشهادتهم القوية التي مركزها صليب المسيح وسر قوتها هو تبعية الحمل الذي ذُبح. كتب زينزيندورف ترانيم كثيرة؛ تصل إلى ألفي ترنيمة، منهم ترنيمة ترجمها جون ويسلي ولحنها جون هاتون وترجمت للعربية، أذكر منها هذين العددين:
١- بـــرك يا رب ردا | | عزي وثوبي اللامعُ |
لابسه بين العــدى | | وفيه رأســـي رافعُ |
٢- ثوبٌ نقي طاهرٌ | | هذا الردا سيظهرُ |
ليس عيـبُ فيه ولا | | في لــــــونه تَغــيُّرُ |
من أقواله الشهيرة: “لا توجد سعادة أكثر من العيش بالقرب من المسيح، ولا يوجد فقر أكثر من افتقاد حضوره وبركاته، ولا توجد كارثة أكبر من إغضابه، ولا توجد حياة إلاّ فيه”.
والآن نستخلص بعض الدروس المباركة مما سبق:
١- مع أن آلام المسيح الرهيبة من يد البشر، أعمق وأعظم من أن تصفها أي لوحة فنية، كما أن آلامه الكفارية لا يمكن تصورها فكيف ندرك ما لم يستطع واحد من الرسل أن يسطر عنه كلمة واحدة! لكن ما من مؤمن سبق وتأمل في شيء من آلام حمل الله إلا وتحوَّلت أشواقه إلى عمل لله، وتكريسه لم يكن مجرد عبارات أو عبرات سواء في الترانيم أو الصلوات بل يعبِّر عنه بعطاء وأتعاب وتضحيات. كل تكريس حقيقي يبدأ من عند صليب المسيح. أمام منظر المسيح المتألم يلتهب القلب حبًا وتقديرًا للرب، ونتذكر ما فعله الرب لأجلنا فتتوَّلد فينا رغبة صادقة مخلصة أن نعيش للذي مات لأجلنا وقام. التجاوب الحقيقي مع آلام المسيح يفتح عيوننا على حقيقة هامة جدًا، وهي: التقديس بالدم الذي به اشترانا المسيح والذي به غسَّلنا من خطايانا وجعلنا ملوكًا وكهنة؛ فنسلك كما سلك المسيح. في تقديس الكهنة في خروج٢٩، كان يؤخَذ من دم الكبش الذي ذُبح، ويُمسح به: شحم الآذان اليمنى لهرون وبنيه وأباهم أيديهم اليُمنى، وأباهم أرجُلهم اليُمنى.
عند صليب المسيح تُقدَّس الأذنين فنتعلم من طاعة الحمل كيف نخضع.
عند صليب المسيح تُقدَّس اليدين فنتعلَّم من حياة الحمل كيف نخدم.
عند صليب المسيح تُقدَّس الرجلين فنتعلم من قداسة الحمل كيف نسلك.
٢- درس آخر نتعلمه، هو أنه كما يستخدم الرب قلم الكاتب ولسان الواعظ، يمكن أن يستخدم أيضًا ريشة الرسام، لا نستغرب أن الشيء الذي أضرم مشاعر زينزيندورف لم يكن نبذة مكتوبة أو عظة مسموعة، لكن لوحة مرسومة تحتها تعليق صغير.
الرب لا ينبهر بحجم الإنجازات في الخدمة وتألقها كما يفعل البشر! ولا يزن الأعمال فقط بقدر ما تكلفت من جهد ووقت، كما يحسب الناس. بل إن السيد العظيم يعطي قيمة عظيمة للطاعة في حد ذاتها، والأمانة والاجتهاد الذي تم به العمل، والدافع وراءه حتى ولو كان صغيرًا وفي الخفاء. عزيزي الشاب شغِّل مواهبك من أجل الرب وسيستثمرها الرب. حبذا لو قصدت بها إكرام سيدك، وليس مجرد إشباع لرغبتك أو تسديد لاحتياجٍ فقط، لكن اعمل باجتهاد لأجل الرب في المقام الأول.
٣- الرب هو الذي يصنع العلاقات ويرتب الأحداث ويفتح أبواب الخدمة، فبشخص واحد يمكن أن يؤثِّر الرب على مجموعة كبيرة حتى إذا كانت البداية بسيطة. ربما تُشجِّع شابًا صغيرًا أمينًا يضعه الرب في طريق حياتك أو تساعده بشيء من الموارد التي وهبتها النعمة لك، فتتحرك فيه الرغبة المقدسة أن يعيش للرب، ومع الأيام تُضرم مواهبه وتُستثمر في خدمة الرب بصورة تفوق توقعاتك. لا تبخل بأن تستثمر موارد النعمة في الآخرين كما فعل الرب مع التلاميذ، وكما فعل بولس مع تيموثاوس، وهكذا فعل برنابا وبطرس مع مرقس. كما أن التكريس الحقيقي للمؤمن الأمين يكون بمثابة نموذج يحُتذى، ومثال جيد يجذب الأمناء ويلهمهم ويرفع منسوب تكريسهم.