شاء الله في حكمته أن يُدوِّن لنا في كلمته دينونة الطوفان التي وقعت على العالم الكائن يومئذٍ، وكذلك خلاص الذين كانوا داخل الفُلك. كان كل شيء قد فسد، ولم يبقَ شيء صالح بالمرة، فرأى الله أن يمحو الجميع، وفي نفس الوقت يُخلِّص المنتسبين لنُوح، الذي لم يوجد بار غيره بين البشر الموجودين حينئذٍ (٢بطرس٢: ٥).
ولأن كلمة الله تفسر ذاتها، فإن ما جاء في ١بطرس٣: ١٨-٢٢ يُعتبر مُفتاحًا لحياة نوح كرمز. فالفُلك – رمزيًا – هو المسيح. والطوفان الذي فيه اجتاز الفُلك حافظًا مَنْ فيه، هو الدينونة التي هلك بها العالم، وهو صورة مسبقة لدينونة أخرى قادمة ستأتي على الجنس البشري الساقط (٢بطرس٣: ٦، ٧). بينما أتى الفُلك بالذين حُفظوا فيه إلى عالم جديد خارج من المياه؛ فيه الرائحة الحلوة المتصاعدة من الذبيحة المقبولة التي قدَّمها نُوح، والتي ضمنت دوام البركة (تكوين٨: ١١).
وهكذا نحن أيضًا، الذين وجدنا نعمة في عيني الرب، قد التجأنا إلى المسيح - فُلك خلاصنا - هربًا من دينونة أرهب وموت أروع. ففيه واجهنا الدينونة واجتزناها. بموته مُتنا وانتهى وجودنا في دائرة الخليقة القديمة، وبقيامته وقيامه لأجلنا في مجد السماء بدأ وجودنا في دائرة الخليقة الجديدة. وإن كان لوجودنا “في المسيح” معنى فهو أننا مُعتبَرون معه واحدًا في الموت والقيامة ودخول المجد، حيث يبدو كل شيء جديدًا (كولوسي٢: ٢٠؛ أفسس٢: ٦؛ ٢كورنثوس٥: ١٧).
وكما ذكرنا فإن الفُلك (تكوين٦) إشارة واضحة إلى المسيح؛ فُلك خلاص المؤمنين:
أولاً: الفُلك مصنوع من خشب الجُفر: والخشب صورة للطبيعة الإنسانية للرب يسوع المسيح. ولا يُعرَّف نوع هذا الخشب، وهذا لا يعنينا كثيرًا، ولكن الذي يعنينا هو كلمة «جُفْر». فإن الكلمة المشتقة منها لفظ “الجُفر” تعني “التكفير”؛ فكأن الفُلك يُحدثنا عن الكفارة بموت المسيح الذي اجتاز دينونة غامرة لخلاص المحتمين فيه (١بطرس٣: ٢٠).
ثانيًا: لم يكتفِ الله بأن طلب من نوح صنع الفُلك، بل
أعطاه الله أيضًا أوصافه وأبعاده. فليس في أمر الخلاص مجال لتدخل الفكر البشري. وكانت سعة الفُلك كافية لخلاص الكثيرين ممن لو آمنوا خلال مدة بنائه (وهي أكثر من مائة سنة) لخلصوا هم أيضًا، إذ أن حجمه كان حوالي ٣٧٦٦٠ مترًا مكعبًا.
ثالثًا: كان يجب طلاء الفُلك بالقار (البيتومين كما نعرفه الآن)، من داخل منعًا للرشح الداخلي، ومن خارج أيضًا وقاية له من تسرب الخطر الخارجي. وهكذا طفا آمنًا فوق مياه الدينونة التي انصبت على العالم، وظلت تغطيه لنحو سنة كاملة، على مداها تبدَّلت حالة الجو، ونُوح مرتفع فوق أمواج الغضب وتيارات الدينونة، مُغلَّقًا عليه بيد القدير، ولم تصل إليه قطرة واحدة من المياه العظيمة. فكان الخراب والموت يُحيطان به، ولكن المكان الوحيد الآمن الذي وُجَدت فيه الحياة وقوامها، كان داخل الفُلك. وهنا حق ثمين لقلب المؤمن وضميره: فجميع لجج غضب الله وأمواجه قد عجَّت على رأس شخص الرب يسوع عندما تعلَّق على الصليب، ولذلك لم يُبقِ منها شيء ليقع على رأس المؤمن.
رابعًا: وفي الفُلك يُمكننا مع نوح أن نصنع مساكن (أوكارًا): «تَجْعَلُ الْفُلْكَ مَسَاكِنَ...»، لأن المحبة التي أعدت كل شيء تُعطينا أكثر من الأمان والسلام. والقلب الملتمس ملجأ، لا يجد مجرد استحكام يحتمي فيه، بل يجد أيضًا ما يفوق عناية الأب وحنان الأم، وهذا ما تدل عليه كلمة “وكر (عش)”. ففراخ الطيور في أوكارها لا تتمتع فقط بمجرد الحماية، بل أيضًا بعناية الأب وحنان الأم وعطفها (تثنية٣٢: ١٠-١٢).
وكان للفُلك مساكن - أو طوابق - ثلاثة، إشارة إلى درجات متفاوتة من النمو والإدراك الروحي والتقدم إلى أعلى فأعلى. ولكن مع اختلاف درجات النمو، فالجميع واحد «في المسيح» من حيث نوال الخلاص الكامل، الذي لا يدخل في نطاق درجات النمو.
خامسًا: لقد كانت الحياة مكفولة والشبع متوفرًا لسكان الفُلك، برغم الموت والتخريب الذي ساد العالم يومئذٍ. فقد وقعت الدينونة، قوة الموت، على كل كائن حي خارج الفُلك من غير إشفاق، لكن النعمة قد مدَّت يدها بالخلاص «وَأَنْتَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ وَاجْمَعْهُ عِنْدَكَ، فَيَكُونَ لَكَ وَلَهَا طَعَامًا». إن الرب الذي خلَّصنا بموته هو نفسه الذي يُشبع نفوسنا ويُسدد إعوازنا؛ إنه طعام جميع المؤمنين. ويا له من امتياز أن نأكل ونشبع بشخص المسيح.
سادسًا: والفُلك كان له باب، وله كَوّا. إن الخلاص من الطوفان كان بشيء واحد لا غير، الالتجاء إلى الفُلك، والاحتماء به. وهكذا خلاصنا الآن لا يمكن أن يكون سوى باللجوء إلى المسيح، والاختباء في جنبه المطعون. وقد قال ربنا المبارك، الراعي الصالح الحقيقي، عن نفسه، إنه هو الباب؛ الطريق الوحيد الموصل إلى الله، والباب الوحيد لكل من يبتغي الحصول على الخلاص «إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ» (يوحنا١٠: ٩).
ولا ريب أن جميع الذين كانوا داخل الفُلك قد أصبحوا في دائرة الأمان والاطمئنان الكامل لأن الرب أغلق الباب، فلا يقدر أحد على الدخول أو الخروج بدونه. على أن الفُلك كان له كَوًّا (طاقة) أيضًا. أما الباب فإن الرب كان قد ختمه بيده القوية، ولكن“الكَوّا” تُرك أمرها مع نوح، حتى يستطيع أن يرفع بصره نحوها فيرى دينونة الله واقعة، ويتأكد مِن أنه لم تبقَ دينونة عليه.
لقد كان “الباب المُغلَّق” دليلاً على أنه لم يعد لنوح ولا للذين معه شيئًا على الأرض، وفي “الكَوّا” كان البرهان على أنه يمتلك كل شيء في الله. وما دام فُلك خلاصنا قد أُغلِّق بيد الله نفسه، وصرنا في الأمان، فلم يبقَ أمامنا سوى أن نتمتع بالكَوّا، أو بعبارة أخرى نسير في غبطة وقداسة الشركة مع ذاك الذي أنقذنا من الغضب الآتي، وأهّلنا لشركة ميراثه، وانتظار مجده، متطلعين إلى فوق، ترقبًا لبزوغ كوكب الصبح المنير، ومجيء الرب من السماء، ليُدخلنا إلى المجد الأبدي في بيت الآب المُحبّ.
سابعًا: لو نظرنا إلى الفُلك مجتازًا في مياه الطوفان كرمز لموت المسيح، فإن
استقرار الفلك على جبل أَرَارَاط، وخروج نوح إلى الأرض الجديدة، يُشكِّلان ظلاً للقيامة.
ونحن قد أُخبرنا أن الفُلك قد استقر في ١٧ من الشهر السابع الذي يُدعى شهر أبيب. ولكن من وقت عمل الفصح الأول، أصبح ذلك الشهر «أَوَّلُ شُهُورِ السَّنَةِ» (خروج١٢: ٢). والحَمَل كان يُذبح في يوم ١٤ من نفس الشهر، وهو نفس اليوم الذي صُلب المسيح فيه (يوحنا١٨: ٢٨). واليوم الثالث بعد ذبح الحمل يوافق ١٧، وهذا هو اليوم الذي استقر فيه الفلك على جبل أَرَارَاط، وهو أيضًا اليوم الذي قام فيه المسيح من بين الأموات.
وفي استقرار الفُلك على جبل أَرَارَاط، وظهور الأرض الجديدة، نرى أنفسنا في المسيح مستقرّين ومُستريحين في الخليقة الجديدة، على أساس قيامته. إذ في خروج أَرَارَاط من قلب مياه الطوفان، وعدم تعرضه لأن تغمره المياه مرة أخرى، نرى «أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضًا. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَعْدُ» (رومية٦: ٩). ففي “أَرَارَاط” التي معناها “الأرض العالية المقدسة” إشارة إلى قيامة المسيح كالأساس العالي المقدس الذي عليه يُبنى الإيمان، بعد انتهاء طوفانات الغضب على الصليب، والذي عليه استقرت وارتاحت كنيسة الله.