“لا تستصغر هرماسًا ضعيفًا، فقد يغدو نمرًا متوحشًا”. لا أُخفيك سرًا عزيزي القارئ أني وقفت أمام هذا المثل كثيرًا وقرأته عدة مرات، فكرت فيه طويلًا ولم يمرّ عليّ مرور الكرام، ولعلك سألت مثلي تمامًا: ما هو “الهرماس”؟ في الحقيقة كان المعنى غامضًا بالنسبة لي في البداية، وبعد البحث في أكثر من مرجع وجدت معناه، فهو صغير النمر.
والمثل المذكور أعلاه في معناه البسيط: لا تستَهِن بالأمور الصغيرة في بدايتها؛ فقد تتحول إلى أشياء صعبة بعد ذلك وخطيرة. وبعد التفكير، وجدت أن هناك ما يؤكد ذلك من الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله الحية الفعالة، مثل «خُذُوا لَنَا الثَّعَالِبَ، الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ» (نشيد٢ :١٥)، التي تؤكِّد أن الاستهانة بالأفكار الصغيرة في بدايتها وإعطائها حيِّزًا كبيرًا من الذهن للتفكير فيها وتنميتها، ينتج نتائج مريرة ومدمِّرة لأصحابها. وتأكيدًا للكلام المكتوب أعلاه سنتحدث عن شخصين من أشهر شخصيات الكتاب المقدس في العهد القديم، بل وفي الكتاب المقدس كله.
تساهل ملك
داود الملك وهو الملك المحبوب لشعب الله، والمرنم الحلو. يمكنك قراءة الحادثة التي أودّ الإشارة إليها في حياة هذا الملك كاملة في سفر صموئيل الثاني أصحاح ١١. ففي الوقت الذي كان فيه ينبغي على داود الملك أن يكون في المعركة مع الجيش، لم يفعل ذلك بل صعد إلى السطح ليتمشى؛ فرأى امرأة تستحم، فأتت إلى ذهنه فكرة، فاشتهى هذه المرأة المتزوجة. وبعد ذلك حدث ما لا يُحمد عقباه. أمر بإحضار تلك السيدة (المتزوجة) ليزني معها!! ما يستوقفني في ذلك الموقف هو كيف تساهل داود (ونحن أحيانًا) مع الفكرة، ولم يحكم عليها ناظرًا إلى ما سوف يفعله؟ هل هذا صحيح أم غير صحيح؟ هل هذا يمجِّد الله؟ هل هذا يليق به كملك وقدوة للشعب أن يفعل ذلك؟ وللأسف لم يفعل داود ذلك (ونحن أحيانًا). كانت النتيجة هي السقوط المُشين، والذي بقى نقطة سوداء في السيرة الذاتية لداود الملك، الذي قال عنه الرب إنه وجد قلب داود مثل قلبه. السبب في ذلك كان تساهله مع فكرة بدأت صغيرة في بدايتها، ولكنها كبرت كالأسد الذي يمسك بفريسته بين مخالبه. وفي الحقيقة، لو كان داود سأل نفسه الأسئلة السابقة لما كان فعل ذلك الفعل المُشين. فيا ليتنا ندقِّق في كل فكرة تأتي إلى أذهاننا، ونتذكر قول الرسول للمؤمنين في فيلبي ٤: ٨ «أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا».
الجبار الضعيف
قليل جدًا مَنْ لم يسمع عن هذا البطل المغوار شمشون، الذي يحفَل سجل حياته بمعارك انتصر فيها على آلاف من الفلسطينيين بمفرده مستخدمًا أدوات بسيطة جدًا. ويمكنك قراءة قصة حياته في سفر القضاة الأصحاحات ١٤-١٦. المواقف كثيرة في حياة ذلك البطل الذي كانت عيناه سببًا في موته، ولم يكمل المسيرة الحسنة التي بدأ بها حياته مع الرب، بل كانت بدايته حسنة جدًا ونهايته مشينة جدًا. ولا يسعنا المجال لنتحدث عن حياته بالتفصيل، لكن أودَّ الإشارة إلى موقف من حياته في بداية الأصحاح السادس عشر نقرأ «ثُمَّ ذَهَبَ شَمْشُونُ إِلَى غَزَّةَ، وَرَأَى هُنَاكَ امْرَأَةً زَانِيَةً فَدَخَلَ إِلَيْهَا». من خلال قصة حياته نعرف أنه أعتاد الذهاب إلى أرض الفلسطينيين، وهم في ذلك الوقت كانوا أعداء لشعبه. وكان من المفترض أنه عندما يذهب إلى أرض أعدائه يكون حريصًا جدًا في تصرفاته، ولكنه للأسف لم يكن كذلك. ولكن أتعجب جدًا من ترتيب الأحداث؛ ففي عدد واحد من كلمة الله يصف لنا كيف كان متساهلاً مع شهواته حيث «ذَهَبَ... وَرَأَى... فَدَخَلَ إليها». لم يتوقف ليسأل نفسه عما يفعله!! ولعلك تقول إنه لم تنتهِ حياته في هذا الموقف، ولكن في نفس الأصحاح كانت بداية النهاية بالنسبة لهذا البطل، وكانت تلك الحادثة هي الخطوة الأولى في نهاية حياته. فهو لم يكن حريصًا من البداية في ذهابه إلى أرض الأعداء، ولم يذكر لنا الكتاب عن سبب معين لنزوله لغزة. كان يسير بلا هدى، واعتاد أن يفعل ما يروق له وما يسرّه، تاركًا المجال لغرائزه تحكم أفعاله دون حساب النتائج، ولم يدقِّق في أفكاره ويمتحنها؛ وكانت النتيجة نهاية حياته بطريقة مأساوية!
عزيزي بعد ما عرفته عن أهمية أفكارنا التي تُشكِّل أفعالنا وتؤثِّر في شخصياتنا بالتأكيد، كيف ستتعامل مع أفكارك؟! اذكر أن أفضل طريقة لقتل ثعبان الكوبرا الخطير وهو بيضة لم تفقس بعد. أرجو وأصلي أن تدقِّق كثيرًا في كل فكرة تتبادر إلى ذهنك، وتطرد سريعًا كل ما لا يرضي الله. ولنصلِّ دائمًا «لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيّ« (مزمور ١٩ :١٤).