جلست ممسكًا بالموبايل أتصفح وسائل التواصل الإجتماعي ذات مساء، فوجدت أمامي هذه الصورة، ومعها تعليق من عدة سطور يحكي قصتها. ببساطة، أحد المصورين كان بمخيم للاجئين، ورأى هذه الطفلة جالسة على الأرض تأكل من طبق، والمكان حولها ممتلئ بالنفايات. بسرعة التقط الكاميرا، واستعد ليلتقط لها صورة تعبِّر عن الألم، والجوع، والمرارة التي يعانيها هؤلاء الأطفال في مخيمات اللاجئين. إلا أنه فوجئ بالطفلة تأخذ من الطعام الموجود أمامها في الطبق، وتمدّ يدها إليه كي تعطيه من طعامها. لقد ظنت هذه الرائعة أنه جائع، ويقترب ليأكل معها؛ فما كان منها إلا أن أخذت مما لها وأعطته بكل براءة دون تكلف أو تفكير!
توقفت كثيرًا أمام هذه الصورة، هزَّت أعماقي، وشاركت بها الكثيرين من أصدقائي. في اليوم التالي وجدتني أفتحها وأتأمل بها لوقت طويل. مأخوذًا بالكثير من تفاصيل هذه الصورة، مذهولاً بما ورائها من معانٍ كثيرة. والغريب أنني بعد عدة أيام فتحتها للمرة الثالثة وأخذت أتأمل بها. ثم قلت لنفسي: “لن أهدأ ولن أشعر بأنني قلت ما في داخلي إلا بكتابة ما يجيش في صدري من أفكار ومشاعر تنتابني في كل مرة أتأمل في هذه الصورة”. جلست أكتب لأحبائي قراء مجلتنا الغالية “نحو الهدف” ما رأيته في هذه الصورة، واثقًا أن لديكم المزيد من الأفكار والدروس التي نتعلمها من هذا المشهد البديع:
١- العطاء غير مرتبط بما نملكه
ماذا تملك هذه الطفلة الفقيرة حتى تُعطي من طعامها لشخص غريب لا تعرفه؟ هي لا تملك إلا هذا الطعام القليل. وهذا ما جعل المصور يقترب إليها. اقترب ليلتقط صورة تعبِّر عن الفقر؛ فوجد نفسه أمام طفلة غنية بالمحبة والعطاء والكرم. اقترب ليلتقط صورة للمهانة والذل؛ فأكتشف أنه أمام أروع مشهد للكرامة وعزة النفس. اقترب من صغيرة تحتاج للعطف؛ فأكتشف أن كثيرين من الكبار هم من يحتاجون للعطف! فالعطاء غير مرتبط على الإطلاق بالحالة الاجتماعية، أو مقدار ما نملك، أو بكم يفيض عنا لنعطيه للمحتاجين. لقد أثبتت هذه الطفلة أن العطاء يملأ القلوب البسيطة، البريئة. تُذكرنا هذه الطفلة بأرملة أعطت يومًا كل ما عندها «وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْجَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا» (مرقس١٢: ٤١-٤٣). ألقت هذه الأرملة أقل كثيرًا من كل الأغنياء، إلا أن المسيح رأى أنها ألقت أكثر منهم جميعًا. لأنها ألقت من إعوازها. وهكذا فعلت هذه الطفلة بطلة قصتنا، وبطلة هذه الصورة.
٢- من الذي يشعر بالمحتاج؟
ظنت هذه الطفلة أن المصور الذي يقترب منها جائع مثلها. وهي تعرف جيدًا شعور الجائع، فلم تبخل عليه بما لديها. ربما ما كان في طبقها لا يكفي لإشباعها إلا أنها لم تهتم كثيرًا بأن تشبع حتى النهاية، فقد كان اهتمامها الأكبر أن تعطي الجائع؛ لأنها تعرف جيدًا شعور الجائع، خصوصًا إن كان أحد يتناول أمامه الطعام. فالمحتاج، هو من يشعر بالمحتاجين، والجائع هو من يشعر بالجائعين، والمتألم هو من يشعر بالمتألمين.
قارئي العزيز، ربما تمر في وقت عصيب، وربما تشعر أنك متألم بصورة تفوق قوة احتمالك. لكن أقول لك: ثق، فالله له خطة عظيمة في حياتك، وسيجعل من هذا الألم طريقًا عظيمًا لتشعر بالآخرين، وتتكلم إليهم بما لا يستطيع آخر أن يقوله. وما أروع أن نكون مثل سيدنا ومثالنا العظيم ربنا يسوع المسيح المكتوب عنه: «مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيمًا... لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عبرانيين٢: ١٧، ١٨).
٣- جائعة أم شبعانة؟
كما رأيت في هذه الصورة أنها تنقل لنا مشهد لطفلة جائعة جسديًا تأكل طعامها في الشارع، إلا أنني رأيتها أيضًا طفلة شبعانة نفسيًا على إستعداد أن تُعطي من طعامها للآخر، وإن كانت لا تعرفه! حتمًا تحتاج هذه الطفلة للحب، لكنها أيضًا على استعداد أن تعطي حبًا في صورة طعامها الشخصي. تذكرني هذه الطفلة بأخرى أكبر منها قليلاً كانت تعاني من سبي وشعور بالحرمان من أهلها وبيتها وموطنها الأصلي؛ إلا أنها لم يكن لديها أي شعور بالبغضة والكراهية تجاه من فعلوا بها ذلك. بل على العكس كانت ترى نفسها شبعانة، وترى أسيادها هم من يحتاجون لنصيحتها ورأيها. إنها الفتاة المسبية التي كانت في بيت نعمان السرياني، ووجدت أن سيدها مريض بالبرص، فلم تبخل بالنصيحة التي ستنهي مشكلته تمامًا من جذورها. «فَقَالَتْ لِمَوْلاَتِهَا: يَا لَيْتَ سَيِّدِي أَمَامَ النَّبِيِّ الَّذِي فِي السَّامِرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَشْفِيهِ مِنْ بَرَصِهِ» (٢ملوك٥: ٢، ٣). كانت محرومة بالجسد من أهلها، إلا أنها كانت شبعانة نفسيًا ولم تشمَت في سيدها المريض، بل كانت هي المنقذ له من مرضه، ومن مشكلة حياته التي كانت تؤرقه ليلاً نهارًا.
٤- كيف تكون مؤثرًا؟
تركت الصورة أثرًا عميقًا في كثيرين ممن شاهدوها. ليس لأنها لطفلة فقيرة، تأكل في الشارع - ربما لأننا أعتدنا على هذه المشاهد المؤسفة في العالم المضطرب من حولنا - إنما لأن هذه الطفلة فعلت ببراءة ودون تكلُّف ما يعجز عن فعله الأغلبية الساحقة من بنو البشر. لهذا كانت مؤثرة، وسبب تغيير في أفكار كثيرين. فمن أراد أن يكون مؤثرًا لا بد وأن يكون مختلفًا عن بقية الناس. إن كان العالم من حولنا يزداد ظلمة، فلنزدَد نحن توهجًا ونورًا. وإن كان العالم يمضي نحو الشر بأقصى سرعة، فعلينا أن نُسرع نحن في طريق الخير. وإن كان العالم حولنا يمتلئ فسادًا وكذبًا، فما علينا إلا أن نقترب من إلهنا الصالح لنمتلئ صلاحًا وصدقًا. لن نكون مؤثرين إن فعلنا ما يفعله العامة من حولنا. إنما التأثير العميق يأتي من اختلافنا عمن حولنا بالعطاء، والمحبة، والصدق، والأمانة. «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا. وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا. وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا» (لوقا٦: ٢٧-٣٣).