توقفنا في العدد السابق عند المشهد البارز في حياة الرب يسوع قبل ظهوره للخدمة العلنية. ألا وهو دخوله الهيكل وهو في الثانية عشر من عمره، ورأينا كيف تصرف بعد نهاية أيام عيد الفصح إذ بقي في الهيكل في الوقت الذي غادر الجميع أورشليم، وكيف تصرف مع الشيوخ والمعلمين عندما جلس بينهم مستمعًا ومتسائلًا. وكيف كان محتمًا عليه أن يكون فيما لأبيه. ثم أشار الرب إلى حتمية أخرى متعلقة بأعماله «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ».
في هذا العدد سنتأمل في بعض الحتميات التي كان على الرب يسوع أن يعملها والمرتبطة بالإنسان.
١– حتمية التبشير في كل المدن «فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ الْمُدُنَ الأُخَرَ أَيْضًا بِمَلَكُوتِ اللهِ، لأَنِّي لِهذَا قَدْ أُرْسِلْتُ» (لوقا٤: ٤٣).
٢– ينبغي أن يخدم ويشفي بلا خوف «بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ الْيَوْمَ وَغَدًا وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجًا عَنْ أُورُشَلِيمَ «(لوقا١٣: ٣٣).
٣– ينبغي أن يأتي بالخراف الأُخَر «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ» (يوحنا١٠: ١٦).
٤– حتمية دخوله بيت المؤمن «فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» (لوقا١٩: ٥).
١– ينبغي أن أبشر
في بداية خدمته أعلنها الرب في مجمع الناصرة «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ» (لوقا٤: ١٨). فرسالته هي الخبر المفرح لكل الناس. ففي كفر ناحوم كان يعلِّم ويخرج الشياطين ويشفي المرضى (ع٣١–٤١)، فتأثر الناس بما سمعوه من تعليم وما رأوه من معجزات، كان إعجابًا عقليًا فقط وليس إيمانًا قلبيًا، فأمسكوا الرب كي لا يذهب عنهم. لكن الذي لا يبغي الشهرة من وراء خدمته، ولا ينتظر إعجاب الناس بأعماله، كان أمامه هدف لإرسالية تسلَّمها من الآب، لا تتوقف على إعجاب الناس أو رفضهم. بل كان محتمًا عليه أن يذهب ويبشر المدن الأخرى لأن هذه هي إرادة أبيه السماوي.
أحبائي يا من تخدمون الرب: ما الذي يحركنا في تجوالنا؟ هل دعوة الآخرين لنا وإعجابهم بخدمتنا وأماكنهم المريحة؟ أم إرسالية الروح لنا إلى الأماكن المحرومة من كلمة البشارة؟!
٢– ينبغي أن أسير اليوم وغدًا
في الأعداد السابقة، تظاهر الفريسيين بأنهم مهتمون بحياة الرب وخائفين عليه من خطر هيرودس الذي سبق وقتل المعمدان، وهم في حقيقة الأمر لا يريدون الرب بينهم. فقد كان الرب في الطريق الصاعد لأورشليم، واقتربت ساعة الصليب، وإذ سمع هيرودس عن أعمال الرب بدأ يخاف على مركزه؛ فأراد قتل المسيح إذ ظن أنه المعمدان قام من الموت. لكن رد الرب على الفريسيين بأنه لا بد أن يذهب لأورشليم وأن خدمته لا بد أن تكمل فزمان ومكان الموت محدد ومعروف له. ليس على يد هيرودس بل في أورشليم بعد إكمال رسالته.
عزيزي القارئ: قال الرب «وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا» (متى١٠: ٢٨). فبعد أن رأينا في الحتمية السابقة درس الاهتمام بالخدمة في كل الأماكن، نرى هنا درس الاهتمام بالخدمة في كل الوقت بلا خوف من شيء.
٣– ينبغي أن يأتي بتلك الخراف
عندما جاء الرب متجسِّدًا على الأرض، أعلن أنه الراعي الصالح لحظيرة الشعب القديم، وكانت في ذلك الوقت هي خاصته «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ». رفضوه بل ورفضوا كل من يعترف به، رغم أنه قد أعلن لهم كثيرًا بأنه هو المسيا وهو الآتي الذي ينتظرونه، فكانت كلمتهم الأخيرة «لاَ نُرِيدُ أَنَّ هذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا». لكن موت المسيح لم يكن لليهود فقط، بل للأمم الأخرى الذين يستجيبون لصوت النعمة ويؤمنون به ويجمعهم إلى جسد واحد. وهذا ما تكلمت به النبوات «فَقَالَ: قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْدًا لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ، وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (إشعياء٤٩: ٦). وما أكده الرسول بولس في العهد الجديد «لِذلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَانًا مَصْنُوعًا بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ. وَلكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ» (أفسس٢: ١١–١٣).
أحبائي: ألا نعظِّم، نحن الأمم، نعمة الله التي أتت بنا من الضلال، لا إلى حظيرة الشعب الأرضي والتي لم نكن نستحقها، بل إلى رعية واحدة لراعٍ واحد وهو المسيح؟!
٤– ينبغي أن يمكث في بيت المؤمن
كان زكا رئيسًا للعشارين وكان مكروهًا ومحتَقَرًا من اليهود بسبب ما كان يمارسه وهو يجمع المال من الشعب بطرق الغش والتدليس غير المشروعة والمعروفة عن العشارين، وذلك ليوفي الحكومة الرومانية ما تطلبه وأيضًا ليبقى لنفسه نصيبًا وافرًا من المال، فصار غنيًا بهذه الطريقة. لكن النعمة عملت فيه وتولَّدت بداخله رغبة فطلب أن يرى يسوع. ولأن كل من يطلب يجد، والرب يمنح شهوة الصديقين، فلم يُشبع الرب رغبته فقط بأن يراه، بل نظر إليه ودعاه باسمه وأخبره عن الشيء الحتمي الذي لم يحظَ به سواه «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». إنه شيء عجيب! هل إلى هذا الحد يهتم الرب بخاطئ واحد يتوب ويتنازل ليصادقه ويدخل بيته ويجلس على مائدته؟!
عزيزي القارئ: إن كنت مؤمنًا بالمسيح فلا تنسَ أنه في حياتك وفي بيتك فلا تُحزنه بل قدِّم له ما يشبع قلبه.