أثناء فاعليات دورة الألعاب الأوليمبية في مدينة أتلانتا، بولاية جورجيا الأمريكية، والتي أُقيمت في صيف عام ١٩٩٦، عرف العالم بأسره اسم الشابة “كيري ستراج Kerri Strug”، التي كانت مفتاح فوز فريق الجمباز النسائي الأمريكي، بالميدالية الذهبية، في الدورة. لم تكن قفزتها الأولى موفَّقة، فبعد دورانها في الهواء لعدة مرات، أخفقت في حفظ اتزانها وهي تهبط على الأرض. والأسوأ من ذلك أن هبوطها غير المُوَّفق نتج عنه التواء في الكاحل، وتمزُّق شديد في أربطة القدم. ولكن بقيت لها محاولة أخرى أخيرة، ويجب أن تكون ناجحة، ليفوز فريقها بالميدالية الذهبية. ولكن كيف يكون هذا، وهي مُصابة بشدة في قدمها؟!
تشكك الجميع من كونها ستخوض حتى المحاولة. وحتى إن حاولت، هل ستستطيع تحقيق الهدف؟ وأشفق عليها الجميع وهي تبكي من الألم؛ ألم الفشل، وألم ضياع الرجاء في فوز فريقها، وألم إصابة القدم. وحبس العالم أنفاسه وهو يراها تخطو وهي تعرج عائدة إلى خط البداية... وترفض محاولات الجميع لإثنائها عن مجرد المحاولة... ثم تمسح دموعها... وتستجمع قواها... وتحاول أن تنسى آلامها للحظات... وتعلن أمام الحُكَّام أنها ستقوم بالمحاولة الأخيرة في القفز والدوران في الهواء، والتي سيتوقف حصول فريقها على الميدالية الذهبية، على نجاحها فيها.
وحبس العالم أنفاسه مرة أخرى وهي تجري نحو جهاز الجمباز، لتؤدي قفزة ناجحة ممتازة، وتدور في الهواء، ثم تهبط على الأرض بثبات شديد، وإن كان على حساب المزيد من الإصابة لكاحلها، والمزيد من التمزقات لأربطة قدمها.
وكانت النتيجة فوز فريقها بالميدالية الذهبية، بل - والأكثر كثيرًا جدًا - لقد زينت صورها الصفحة الأولى من كل جرائد العالم تقريبًا. كانت بطلة اللحظة، ليس فقط بسبب قفزتها التي جاءت بالفوز لفريقها بالذهب، بل لأنها تمَّمتها وسط المحنة الشديدة والمعاناة الأليمة والظروف المُحبِطة. ولولا إصابتها أولًا، لكان أداءها قد نُسي بالفعل. لكن بسبب ظروف الإصابة، ستبقى “كيري ستراج” في الذاكرة طويلاً لشجاعتها ومهارتها، في الوقت العصيب الصعب. إن لحظات الفشل والإخفاق، المصحوبة بالألم والحزن، كشفت عن معدنها الحقيقي، وما فيه من سمو وصلابة وشجاعة وتضحية.
وعندما قرأت قصتها تذكرت قصة “حَنَّة أم صَمُوئِيل” التي كانت امرأة عظيمة، ولولا عذابها ومحنتها التي ألمت بها فى حياتها، لسرعان ما نُسي ميلاد طفلها البكر “صَمُوئِيل”. لكن سنوات عذابها ودموع ضيقها جعلت من ميلاد ابنها، حدثًا لا يُنسى. وكانت بمثابة ستارة المسرح الخلفية لترنيمة حمدها، التي صارت سبب تعزية وإلهام لقديسين على مر العصور (اقرأ من فضلك ١صموئيل١، ٢).
إن “حَنَّة أم صَمُوئِيل” مثال جميل على أن أقسى الظروف غير المواتية يُمكن أن تخلق شخصية يتبارك بها كل مَن حولها. إن الظروف التي شكَّلت الإطار الخارجي لحياتها، كانت - في بدايتها – كئيبة ومُحزِنة. ولكن كانت مُشرقة بالإيمان والرجاء في النهاية. فبالرغم من أن “حَنَّة” كانت بلا أولاد، إلا أنها لم تكن بلا صلاة. وبالرغم من أنها كانت عاقرًا، إلا أنها كانت مؤمنة. وكان ألمها يجد تنفسًا له في الصلاة. وفي بيت الله كانت تطلب من الخالق أن يُعطيها زرع بشر، وأن يتدخَّل في ناموس الطبيعة لصالحها. وكم كان منظرها مؤثرًا وهي تسكب قلبها أمام الله، في بيته، وتتعهد أنه إذا أعطاها ابنًا، فإنها تُعطيه للرب كل أيام حياته! لقد تعهدت أمام الله، وأوفت.
لقد أخذت أحزانها معها إلى الله، وصلّت، لكي ينزع عنها مصدر ألمها وشقائها. وفي محضر الرب سكبت كل أحزانها. وسُمِعَت صلاة قلبها الصامتة غير المنطوقة، وذهبت إلى بيتها راضية، ولم تعد بعد بائسة وحزينة وفارغة، بل فَرحة ومُشرقة ومُرنمة.
لقد بدأت قصة “حَنَّة أم صَمُوئِيل” بالدموع، وانتهت بالترنم. بدأتها بالرأس الخفيض، وانتهت بالرأس المرتفع. بدأتها بالألم والمذلة والحرمان، وانتهت بالرفعة والشبع. بدأتها مع الإنسان، وانتهت مع الله.
أيها الأحباء: إن الألم ضروري لنا جميعًا، لأن من أعمق الألم يخرج أقوى يقين في وجود الله وفي محبته. فالدموع غالبًا ما تكون التلسكوب الذي نرى من خلاله ما في السماء. وقد اختبرنا أن أحسن أوقاتنا الروحية التي شعرنا فيها بقرب الرب منا، هي الأوقات التي استطعنا أن نقول فيها: «أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي، وَعَرَفْتَ فِي الشَّدَائِدِ نَفْسِي» (مزمور٣١: ٧). وحقًا قال أحدهم: إنني على يقين بأنني لم أنمو في النعمة في أي مكان مثلما فعلت على سرير الألم. إن الذي لا يعرف المصاعب، سوف لا يعرف القوة. والذي لا يواجه مصيبة، سوف لا يحتاج إلى شجاعة. وإنها لَمَسألة غامضة، أنَّ أفضل صفات وخصائص الطبيعة البشرية التي نحبها، تنمو في تربة مخلوطة بالآلام. ومن المؤكد أن المؤمن يخرج من كل تجربة مؤلمة بأملاكٍ روحية جزيلة (تكوين١٥: ١٣، ١٤). فيا ليتك يا رفيق سياحة البرية أن تستثمر ألمك وتجربتك لمجد الرب إلهك، ولخير الآخرين، ولتقدمك الروحي.