جاءت أحداث هذه القصة وقت حدوث السيول الأخيرة بمصر. وقد ذُكرت القصة وانتشرت على أكثر من موقع إخباري. بطلتها سيدة عجوز اتصلت ببنك الطعام تطلب حضور مندوب لاستلام ٥ بطاطين تبرعًا منها لصالح ضحايا السيول، تاركة لهم عنوانها بالتفصيل؛ ميدان ثم شارع ثم حارة ثم حارة أخرى ثم دكان بقال ثم بيت!
وصل مندوب البنك بصعوبة بالغة إلى مكان إقامة السيدة، فوجدها طاعنة في السن، هزيلة جدًا، فقيرة أقل من كل فقير، تسكن غرفة صغيرة تحت بئر سلم في بناية قديمة جدًا!
استقبلت العجوز موظف البنك باشتياق مَن يبحث عن ضوء في عتمة الوحدة والفقر الشديد، كان مسكنها عبارة عن غرفة لا تتسع لأكثر من شخصين، بها سرير صغير يتحمل بصعوبة جسدها النحيل، ولمبة في السقف ينبعث منها ضوءًا خافتًا يضيف للغرفة وحشةً وغموضًا. بالإضافة إلى تليفون محمول قديم يبدو أنه نافذتها الوحيدة للحياة.
أصرت على أن تُعد له واجب الضيافة فقامت لتُعد له كوبًا من الشاي وبادرته بالقول وهي تُقدم له الشاي: “الشاي يا ابني من يد خالتك كرمة، بالهنا والشفا، اطمن كوبياتي نضيفة وزي الفل”.
كان الموظف الشاب يشرب الشاي وهو يراقب باندهاش عروق وجهها وهي تنتفض أثناء حديثها، قالت له: ”ماتستغربش، أنا فقيرة آه بس فيه اللي أفقر مني، أنا معاشي من جوزي ٣٠٠ جنيه، جبت بميتين وخمسين جنيه منهم البطاطين دي، وهاتتدبر لغاية آخر الشهر بالخمسين جنيه الباقية، ربنا ها يبعت!”
تردد الشاب قليلاً ثم استجمع قوته وقال لها: “لكن يا ست كرمة، يعني ما تفهمنيش غلط واستحمليني، مش برضه انتي أولى بحق الخمس بطاطين، ظروفك يعني...” لم يستطع أن يُكمل بقية جملته؛ فقد قاطعته بخبطة من يدها على طرف السرير لا تتناسب مع ضعف جسدها. ثم قالت له بلهجة قوية وحاسمة: “فيه ناس مرمية في الشوارع من غير لا بيت ولا غطا، أنا فقيرة بس مش غلبانة، هما غلابة حتى لو كانوا مش فقرا، أنا ربنا ساترني فى أوضة بأقفل بابها تدفيني وأنام... هم ماعندهمش لا باب ولا أوضة، يا ابني خد البطاطين وابعتها بسرعة لحد محتاج قبل ما الليل ييجي”.
هَمَّ بقول شيء آخر، فبادرته بذات اللغة القوية الحاسمة: “شرفتني يا ابني”. خرج وعلامات الدهشة والذهول لا تُفارق قسمات وجهه. وانطلق حاملاً بين يديه أغلى خمس بطاطين إلى مقر بنك الطعام. وما أن وصل حتى حكى لبقية الموظفين والدموع تملأ عينيه قصة الست كرمة، حدَّثهم عن كرمها العظيم، وعزة نفسها العجيبة، ووجهها الصافي الصادق، وكلماتها البريئة الحقيقية، حكى لهم عن ثقتها في الله، ربما نُسيت المرأة من أقرب الناس لها، لكنها كانت تشعر برعاية خاصة من الله، ظهرت في حديثها معه بصورة مُدهشة. قال لهم إن هذه العجوز لا تخاف شيئًا؛ لا تخاف الفقر، ولا الجوع، ولا البرد، ولا المرض، ولا حتى الموت. حكى لهم عن عجوز تحب الله رغم أنها لا تملك شيئًا يُذكر. حكى قصة امرأة ظن في بادئ الأمر أنها تعيش على هامش الحياة، لكن بمجرد ما تكلم معها وجد أنها تُدرك تمامًا معنى الحياة الحقيقية. إبتسامتها لا تكذب، وملامح وجهها لا تُخفي غير ما تقوله. تتكلم بلا تردد، ولا خوف، ولا شكوك.
استمع إليه زملاؤه باندهاش شديد، ثم قرروا أن يفعلوا أي شيء لهذه المرأة، أحدهم اقترح معاشًا شهريًا، وآخر اقترح مساعدتها بمعونة عاجلة، وأُخرى اقترحت أن يبحثوا لها عن شقة صغيرة، وأن يشتروا سرير أكبر، وثلاجة متوسطة ويملأوها بالطعام. لكن موظف البنك الذي ذهب إليها قال لهم بثقة بعد أن انتهوا جميعًا من اقتراحاتهم إنها لن تقبل شيئًا منهم.
في النهاية وصلوا إلى فكرة، أو بمعنى أصح حيلة لكي يستطيعوا أن ينفذوا قرارهم؛ قاموا بالاتصال بها على أنهم من شركة المحمول الخاصة بها، وأبلغوها بأن رقمها فاز بجائزة مالية كبيرة. فأجابتهم العجوز دون تفكير: “عارفين بتوع بنك الطعام، اتبرعو لهم بالفلوس كلها، قولوا لهم يجيبوا بيها بطاطين للناس اللي نايمه في البرد، ماحدش بيموت من الجوع؛ بس فيه ناس كتير بتموت من البرد”.
حكاية الست كرمة لا تحتاج إلى تعليق: إن قلت لك إن العطاء غير مرتبط بالحالة الإجتماعية، وبمقدار ما لديك؛ فقصة الست كرمة أثبتت ذلك بدون توضيح. وإن قلت لك يمكنك أن تؤمن بالله، وتثق فيه ثقة كاملة حتى وإن لم يكن معك شيئًا؛ فهذا تعيشه الست كرمة من دون وعظ أو شرح أو توضيح. هي اختبرت رعايته، وعنايته بها؛ فازداد إيمانها وعظمت ثقتها فيه أكثر وأكثر. لديها إصرار عجيب على العطاء. تتمتع بشفاء نفسي عظيم.
فعلت الست كرمة ما سبق وفعلته الأرملة الفقيرة المسكينة التي كانت في أيام المسيح، وأعطت كل ما عندها لله «وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا”». (مرقس١٢: ٤١–٤٤). كذلك فعل أيضًا مؤمني كنائس مكدونية؛ الذين أعطوا بوفرة وكرم غزير رغم فقرهم العميق كما ذكر الرسول بولس «ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ، أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ. وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ اللهِ» (٢كورنثوس٨: ١–٥).
قارئي العزيز، لن نتعلم العطاء إلا بالعلاقة الشخصية مع الإله الذي أعطى نفسه لنا. فالعطاء كما علَّمنا المسيح هو طريق السعادة، والعلاج للكثير من أدواء هذا العصر الذي امتلأ بحب الذات، ونُدرة العطاء للآخر «مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: “مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ”» (أعمال٢٠: ٣٥).