أن تعيش البر فهذه فضيلة رائعة، ولكن أن تتألم من أجل هذا البر فهذه فضيلة أروع!
يحيرني جدًا هذا السؤال؛ لماذا كل هذا الهيجان المسعور والمحموم ضد أولاد الله وفي كل العالم؟ رغم أنهم لا يبحثون عن سُلطة، أو يريدون مناصب حزبية أو رئاسية؟
الرب يسوع، في موعظته الشهيرة على الجبل، يجيب على هذا السؤال. لقد طوَّب سكان ملكوته، وكشف عن سجاياهم الرائعة بالارتباط بشخصه، لكنه أيضًا يكشف سر كراهية العالم الشرير لهم في أمرين.
السبب الأول هو لفضيلة البر التي يعيشونها. والثاني هو لأجل المسيح وانتسابهم إليه!! فقال الرب يسوع «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ» (متى٥: ١١،١٠).
أولاً: ما هو البر. ولماذا الاضطهاد لأجل البر؟
كلمة بر تأتي من كلمة
Right أي كل ما هو مضبوط وصحيح. لقد طلب داود من الله قائلاً «عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهِي. رُوحُكَ الصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ» (مزمور١٠: ١٤٣).
١. محبة المؤمنين للحق والوداعة. والعالم يحب الشراسة والضلال! لقد قتل هيرودس يوحنا المعمدان رغم أعجابه به. «لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ فَعَلَ كَثِيرًا وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ» (مرقس٦: ٢٠). والسؤال لماذا قتله، هل أراد المعمدان أن يأخذ منه المملكة؟ كلا، بل لأنه لم يوافقه على آثامه، وشهد لهيرودس عن البر، فقتله من أجل البر!
٢. الأعمال البارة! قام قايين على أخيه هابيل وقتله لماذا؟ يقول الرسول يوحنا «كَانَ قَايِينُ مِنَ الشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ» (١يوحنا٣: ١٢). أي أعمال هابيل البارة.
٣. رفض الشر والخطية! وهل فعل يوسف شيئًا يستحق به السجن؟ ألم يرفض النجاسة والزنا قائلاً «فَكَيْفَ اصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَاخْطِئُ إلى اللهِ؟» (تكوين٣٩: ٩). وكم من أتقياء يفقدون وظائفهم، ليس لقلة أمانتهم بل بالعكس تمامًا، بسبب أمانتهم ونزاهتهم وعفتهم. فطوبى لهم! إنه البر الذي لأجله يتألمون.
ثانيًا: الآلام من أجل اسم المسيح
«طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ» (متى٥: ١١).
إنها آلام واضطهاد للمؤمنين بالمسيح لسبب آخر؛ ألا وهو إتّباع المسيح كما قال المسيح «مِنْ أَجْلِي»، وكما وضح الرسول بطرس قائلاً «إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ» (١بطرس٤: ١٤).
وقد يأخذ هذا النوع من الاضطهاد عدة أشكال كما شرحها المسيح:
١. إهانة بالكلام: «عَيَّرُوكُمْ» فلقد عيروا ربنا يسوع المسيح بأبشع الألفاظ!
٢. إيذاء بدني: «وَطَرَدُوكُمْ» فلقد رجموا أستفانوس حتى الموت!
٣. افتراءات كاذبه: «وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ»، كما افترت أمرأة فوطيفار على يوسف بتهمه أخلاقية بشعة!
ثالثًا: وماذا يقدم الرب لهؤلاء المضطهدين؟
١. لأن لهم ملكوت السماوات: يذكر الرب في بداية التطويبات أن أولئك الأتقياء لهم ملكوت السماوات، أي أنتسابهم الحقيقي لشخص المسيح. فهؤلاء المطرودين من ديار الأرض هم سماويين لهم ديار أخرى، “وطن أفضل أي سماوي”!
٢. شرف أننا نتألم من أجل المسيح: «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (فيلبي١: ٢٩). وقيل عن التلاميذ «وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (أعمال٥: ٤١).
٣. اجركم عظيم في السماوات: هكذا وعد الرب يسوع كل متألم لأجل البر ولأجل اسمه أيضًا «افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ» (متى٥: ١٢). ويطوِّب يعقوب كل من يحتمل الآلام بالقول «طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ “إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ” الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب١: ١٢).
٤. شرف الانضمام إلى موكب كبير من تابعي الرب، قال عنهم المسيح «إِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ» (متى٥: ١٢). إنه موكب كبير يضم ملايين المؤمنين، موكب جيش الغالبين. لقد رأى يوحنا الرائي موكبًا جميلاً من أولئك الذين أتوا من الضيقة العظيمة، مطرودين هم أيضًا لأجل البر ولكنهم مهللين فرحين «نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْحَمَلِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ» (رؤيا٧: ٩).
إخوتي الأحباء:
نحتاج لهذه الفضيلة، حياة البر العملية، والتي هي الجانب العملي لبر المسيح الذي لبسناه. هذا ما شدَّد عليه المسيح في موعظته على الجبل بالقول «فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ» (متى٥: ٢٠). وكان يقصد المسيح البر الحقيقي، ليس البر الذاتي المزيف، بل البر العملي الحقيقي النابع من عمل الروح القدس فينا.
وقد نتألم في طريق هذا البر، لكن لنتشجع ونتشدد لأنه من أجل اسم المسيح «وَلَكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ فَطُوبَاكُمْ» (١بطرس٣: ١٤)، وأيضًا «إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ» (١بطرس٤: ١٤).