لما تقرأ تكوين٤٢-٤٥، وتشوف يوسف - الرجل سيد الأرض - وهو بيتنكر لإخواته وبيتعامل معاهم بجفاء، مع إنه عرفهم واحد واحد من لحظة ما دخلوا قدامه؛ ولحد ما عرّفهم بنفسه: «أَنَا يُوسُفُ». تشوفه بيتصرف أزاي في خط موازي للتحول اللي بيحصل في قلوبهم من: «نَحْنُ أُمَنَاءُ»، لحد: «حَقًّا إِنَّنَا مُذْنِبُونَ إِلَى أَخِينَا الَّذِي رَأَيْنَا ضِيقَةَ نَفْسِهِ لَمَّا اسْتَرْحَمَنَا وَلَمْ نَسْمَعْ»، الأمر اللي لم يُذكر في سياق القصة، أتاريه وقتها حاول يستعطفهم لكنهم لم يشفقوا عليه في ضيقته. ويرد رأوبين: ”قلتلكم متعملوش فيه كده ومسمعتوش، وآدي دمه يُطلب منكم“. ويوسف يسمع وهم لم يعلموا أنه فاهم. ويوسف علطول فاهم! ويبكي قلبه قبل عينيه، يتحول عنهم ويبكي ويرجع تاني. وطول القصة تلاقيه داخل طالع يبكي. قلبه الرقيق مش مستحمل، ومع ذلك يكمل في نفس المعاملة دي لحد ما يوصلهم للاعتراف »بِمَاذَا نَتَبَرَّرُ؟ اللهُ قَدْ وَجَدَ إِثْمَ عَبِيدِكَ»، مع إنه من وراهم عمال يعطي الأوامر بأنه تتملي عِدالهم طعامًا ويُعطوا زادا للطريق.
وأنت بتمشي في الأصحاحات دي تشوف يوسف - صفنات فعنيح، كاشف الأسرار ومخلص العالم - مش بيكشف عشان يفضح، لكن عشان يعالج ويخلّص، وبعد كدة يجيبهم يعيشوا معاه ويتمتعوا بخيره.
ياخد شمعون ويربطه قدامهم.. هااا لسه قلوبكم قاسية ومتحجرة؟ عادي كدة يتربط لكم أخ ويتاخد منكم وأنتوا راضيين وساكتين؟
يقولهم: لماذا جازيتم شرًا عوضًا عن خير؟ وفي باله اللي عملوه زمان. ليه وأنا جاي أفتقد سلامتكم وأوصل الأكل اللي أبويا باعتهولكم، ليه تقابلوا الخير بشر؟ أسأتم فيما صنعتم.
داخلينله متكلين على الهدية اللي جايبينها والفضة. وياريتهم ماجابوا، فالحاجتين دول بالذات فكروه باليوم إياه. الهدية عبارة عن كثيراء وبلسانا ولاذنًا (مُرّ). وكأنه يشمها ويقول تااااني الريحة دي!! ما هي دي نفس الحاجات اللي كانت في قافلة الإسماعيليين. والفضة ترن نفس الرنة إياها يوم ما اتباع بعشرين من الفضة. وكأنه بيشوف أقسى لحظات الفيلم إياه. مش بس بيشوف لكن بيسمع ويشم.
الضمير التعبان يخليهم يشوفوا الفضة في عدالهم، فيرتعدوا. ويخلي امتياز دخلتهم بيت يوسف تخوّف وترعب، فقالوا بس ده هيدخلنا بيته عشان يهجم علينا. وهو يوسف بتاع كده برضه؟ إياك هو زي باقي أخواته؟ ده عاطي الأوامر إنه تدبحلهم ذبيحة ويهيء ليهم وهياكلوا مع يوسف شخصيًا! دخلّهم بيته، وكلوا وشربوا ورووا معه وأعطى الأوامر: «امْلأْ عِدَالَ الرِّجَالِ طَعَامًا حَسَبَ مَا يُطِيقُونَ حِمْلَهُas much as they can carry»!
وصل بيهم يوسف للوقت اللي مزقوا فيه ثيابهم زي ما بهدلوا قميصه الملون، ووقعوا قدامه على الأرض بعد ما اكتشفوا طاس الفضة في عدال بنيامين. يتقدّم يهوذا ومش قادر يرفع عينه في عين يوسف ويقوله بقلب مكسور: «اسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي». وكأن يوسف يقوله: عارف يا حبيبي، عارف هتقول إيه، عارف انه ده بنيامين الواد الحيلة اللي فاضل لابوك (وأبويا) من ريحة الحبايب، بعد موت أمه (وأمي) وغياب أخوه! سامعك وعاااارف هتقول إيه!
ويوسف دايمًا عارف القصة من أولها لآخرها! وأقول بكل ثقة كام مرة رحنا للرب في حالات شبيهة بحالة يهوذا ونترمي عالأرض قدامه ونبتدي نتكلم وكأننا هنحكي له حكاية هو مش عارفها، ونقوله: «اسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي» وهو العليم الخبير! ولكن يوسف برضة عايز يسمع القصة من وجهة نظرهم. ويحكي يهوذا ”أبونا قال: مراتي ولدت لي اثنين، فخرج الواحد من عندي وقلت انما هو قد اُفتُرس افتراسًا.. وابونا نفسه مرتبطة بنفس الولد ده من بعد غيبة أمه وأخوه، فلو حصلتله حاجة، هننزل بشيبة أبينا بحزن إلى الهاوية. خلاص، أقولك، خدني أنا بداله“. ومع كل عبارة يقولها يهوذا بصوت مخنوق وبكل ترجي واستعطاف، قلب يوسف خلاص مش قادر يستحمل وهو شايف يهوذا ده اللي شار على إخواته ببيعه يوسف، وقلبه بيتحول لكتلة من المحبة والشفقة على الأب الشيخ والأخ الصغير للدرجة اللي فيها مستعد يضحي بنفسه عشانه. وعندها لم يستطع يوسف أن يضبط نفسه!
يوسف القوي، الطاهر العفيف اللي مسمعناش أبدًا عنه قبل كدة إنه معرفش يضبط نفسه، لا قدام إغراء الشر ولا قدام التهديد، يومها معرفش يضبط نفسه قدام اخواته، وانفجر في البكاء في مشهد مينفعش فيه غير »أَخْرِجُوا كُلَّ إِنْسَانٍ عَنِّي«.
وتوصل القصة للذروة، ويتمم يوسف - بل رب وإله يوسف - قصده الصالح لما اقتادهم إلى التوبة. ما هو مش بس لطفه يقتادك إلى التوبة، لكن حتى جفاؤه يقتادك إلى التوبة. ويعلى صوت البكاء ويسمع المصريون ويسمع بيت فرعون. وتدب الحيرة في قلوبهم، يا ترى إيه اللي يخلي العملاق ده يبكي بالشكل ده؟ ومين شوية الرجالة دول اللي يعملوا فيه كدة؟ وفي مشهد لا يمكن وصفه، ينضاف شعور جديد للخوف والرعب اللي وقع عليهم، شعورهم بالخزي والعار من يوسف. لكنه بسرعة يلم الموقف، بالظبط زي سيده اللي بيعرف يلملم أشلاءنا في مواقف لا نستطيع أن نجيب فيها بكلمة زيهم. ويقولهم ”لا تحزنوا على افعالكم، ولا تغضبوا من أنفسكم“، ويرجع يحط اسم الله في المشهد.. «لأنه لاستبقاء حياة ارسلني الله قدامكم». ليس أنتم - بل الله - هو اللي أرسلني إلى هنا. الله اللي مغابش عن عينه لحظة.. الله اللي ذكر اسمه ٢٠ مرة وهو بيحكي حكايته لغاية ما نطّق فرعون اللي ميعرفش حاجة عن الله، بعد وقفة قدامه دقايق، خلاه يعرف أن فيه ”الله“، وإن يوسف فيه روح الله!
ويقبّلهم يوسف واحدًا واحدًا ، وتنساب الدموع وتختلط دموع سيد الأرض بدموع شوية رجالة رجسين في أعين فرعون وعبيده، وتنساب قصة الغفران والنجاة والنعمة والصفح والاقتراب والبركة والسُكنى وكل حاجة حلوة.
وبعد التوبة تكلم إخوته معه. إيه اللي اتقال؟ منعرفش! لكن نعرف إنه من «تَكَلَّمَ مَعَنَا الرَّجُلُ سَيِّدُ الأَرْضِ بِجَفَاءٍ» اللي «وبعد ذلك تكلم أخوته معه»، في مشوار لازم يتمشي! مشوار ”بنشيد العودة، بدموع التوبة، بخشوع عابد لك اعود يا ربي“.
خلاصة القصة بقى: أسهل حاجة أن صاحب الأرض يديك خبز وخير، لكن مين اللي قال إنه بيختار الطريق السهل؟ وهو لو بيختار السهل، كان اختار موت العار برضة؟ ده اللي مشي أصعب دربٍ، أي شخص كحبيبي؟
وعشان كدة همسة في ودان كل حد شايف أن سيد الأرض كلها بيتعامل معاه بجفاء ومقفِّلها وكأنها ملهاش مخرج. لو بتقول زي إخوة يوسف إنه دخلنا السكة دي عشان ناوي يهجم علينا ويفتك بينا. أقولك اقرأ القصة كاملة، وشوفه وهو بيعمل معاهم اللي ميتعملش، شوفه وهو بيفتح طريق ولا يخطر ببال! شوفه بيوصي عليهم من وراهم بكل الخير، شوفه وهو بيخطط لمستقبلهم. لكن متنساش أن الضمير المثقل التعبان هو اللي بيدينا القرايات الغلط ويخلينا نشوف حتى أعمال العناية والمحبة والرحمة من منظور تاني مشوّه.
وعشان كدة بدل ما نهرب منه، خلينا نهرب إليه، ونقصّر المشوار على نفسنا (اقرأ مزمور٣٢ وخليه لسان حالك).