جاءني ستيفن - ابني الصغير - ذات صباح وبادرني بالقول: بابا عاوز أقول لك حاجة على فلان صاحبي.
فأجبته: اتفضل يا ستيفن.
قال لي بكل ثقة: فُلان صاحبي نص مؤمن!
شدَّني التعبير؛ فنظرت إليه بتندهاش. ثم أومأت إليه أن يشرح لي أكثر ما الذي يقصده بـ”نصف مؤمن“. فقال لي بذات الثقة: فُلان نص مؤمن علشان في مدارس الأحد بيرنم بأعلى صوت، وفي اجتماع يوم الأحد مش بيرنم خالص. في مدارس الأحد بيصلي دايمًا، ولما بيحضر مع باباه ومامته يوم الأحد مش بيصلي. يبقى هو كده نص مؤمن!
ضحكت بشدة وأخذته في حضني وأنا لا أصدق ما أسمعه، بينما هو مندهش من رد فعلي على كلامه. لم يكن لديه شك في أن فُلان نصف مؤمن بسبب عدم مشاركته في اجتماع الأحد، بينما هو يشارك بقوة في مدارس الأحد!
قصة ستيفن جعلتني أضحك قليلاً، ثم أفكر كثيرًا. فكرت في عدة نقاط أسوقها إليك عزيزي حتى ننظر للأمر بشيء من الجدية.
١- الناس يراقبوننا
نعم؛ فمن يتخيل أن طفل في التاسعة من عمره يُلاحظ صديقه ويُقارن بين ما يفعله في مدارس الأحد، وما يفعله في اجتماع الأحد؟ بكل تأكيد ابني يُراقب كل تصرفاتي، ويقارنها بما أقول. لا بد وأنه يسمعني أصلي ثم يُقارن ما بين ما أقوله في الصلاة وما أفعله في حياتي أمامه طوال الوقت. يا لها من مسؤولية عظيمة. ماذا عن زوجتي، وجيراني، وأصدقائي؟ هل نهتم بأن نكون في الصورة التي تليق بإلهنا الذي نتبعه؟ هل نهتم بأن نحفظ كلمة الله، ونعيش بها في حياتنا؟ أم أن الأمر مجرد أقوال جميلة نسمعها في عظات، أو نرددها في ترنيمات دون حياة؟
قال المسيح يومًا: «أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى٥: ١٤-١٦). شئنا أم أبينا هذا هو وضعنا أمام الله والناس؛ نحن نور للعالم من حولنا. يرون من خلالنا تعاليم المسيح، ولا أكون مبالغًا إن قلت أنهم يحكمون على مسيحنا من خلال حياتنا التي يلاحظونها كل يوم.
٢- انتشار الظاهرة
ما تكلم عنه ستيفن هو ظاهرة منتشرة بقوة في هذه الأيام، لا أتكلم عن صديقه الذي لا يُشارك في اجتماع الأحد بالطبع، لكنني أتكلم عن ظاهرة التباين الشديد بين سلوكياتنا في الأجواء الروحية، وسلوكياتنا في الحياة العملية. مما جعل البعض يُطلق تعبير ”نصف مؤمن“ كما قاله ابني. لا يوجد في كلمة الله مثل هذا التعبير. لكن أقرب وصف لمثل هؤلاء هو ما ذكره الكتاب عن المؤمن الجسدي، الذي يؤمن لكنه للأسف لا يعيش بما يؤمن به. مثل هذا المؤمن يعيش في عذاب بسبب التناقض الواضح بين ما يؤمن به وما يعيشه بالفعل. قال بطرس عن لوط المؤمن «كَانَ الْبَارُّ، بِالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ، يُعَذِّبُ يَوْمًا فَيَوْمًا نَفْسَهُ الْبَارَّةَ بِالأَفْعَالِ الأَثِيمَةِ» (٢بطرس٢: ٨). هذه الكلمات تشرح حالة كل مؤمن حياته لا تتناسب مع إيمانه وعلاقته بالله.
يعوزنا الوقت لنقول كم كانت هذه الحياة المتناقضة سببًا رئيسيًا في عثرة الكثيرين، وكم كانت تصرفات المؤمنين غير اللائقة سببًا في ضياع أقرب الناس إليهم. نحن بحاجة أن نكون مثالاً حقيقيًا، وقدوة صحيحة لكل من يتعامل معنا. صديقك يلاحظ كلامك، ويلاحظ أيضًا تصرفاتك. يُراقب ما تفعله في الكنيسة، كما يُراقب ما تفعله في الجامعة. أقول لك أيضًا أن الأكبر منك سنًا يلاحظونك ويتأثرون بك؛ استاذك بالجامعة، والدك والدتك، إخوتك في البيت، المؤمنين في كنيستك. لذلك قال الرسول بولس لتيموثاوس الشاب: «لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ، بَلْ كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْكَلاَمِ، فِي التَّصَرُّفِ، فِي الْمَحَبَّةِ، فِي الرُّوحِ، فِي الإِيمَانِ، فِي الطَّهَارَةِ» (١تيموثاوس٤: ١٢).
٣- لا تدينوا
هذا ما شرحته لابني بصورة بسيطة؛ فهو لا يعلم إن كان صديقه يعرف الترانيم التي يرنمونها في اجتماع الأحد مساءً أم لا. ليس من حقه أن يُطلق أحكامًا على الآخرين لمجرد أنهم لا يفعلون ما يتوقع هو أن يفعلوه. كثيرًا ما ننتقد، ونُطلق أحكامًا، وندين الآخرين. ونحن لا نعرف ظروفهم. نتهم فُلان بأنه فاتر لأنه لا يقف أثناء الصلاة، ولا نعلم أنه أتى مباشرة من العمل للاجتماع لكي يتمتع بالرب، ويسجد أمامه بكل قلبه لكنه لا يستطيع أن يقف! تدينين فُلانة لأنها سلمَّت عليك دون ابتسامة كعادتها، وأنت لا تعلم أنها تعاني من مشكلة كبيرة، وتبكي ليل نهار لأجلها. وهكذا ندين الآخرين في قلوبنا كل يوم بمجرد رؤيتنا لموقف معين قد نكون قد فهمناه بصورة خاطئة تمامًا. وختامًا لا أجد أروع من كلمات المسيح التي قال فيها: «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ يَامُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!» (متى٧: ١–٥).
عندما خلق الله السماوات والأرض، عمل لهما نظامًا رائعًا للإضاءة؛ فالله نور ويحب أن تكون خليقته ”في النور“. فيقول الكتاب المقدس «فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ: النُّورَ الاكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ وَالنُّورَ الاصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ» (تكوين١: ١٦).
والنورين صورة للمسيح والكنيسة!! فالمسيح هو نور العالم، وفي وقت غيابه عن الأرض جعل المؤمنين هم ”النور الأصغر“ للإضاءة وسط ليل وظلام العالم الدامس، حتى يشرق هو ”شمس البر“ مرة أخرى!! لذلك أعلن المسيح في عظته الشهيرة على الجبل أن المؤمنين هم «نُورُ الْعَالَمِ».