أعجب job description

بعد أن أعد المسيح تلاميذه نفسيًا للذهاب إلى الإرسالية، وأقنعهم أن الحصاد كثير وأنهم هم الفعلة، كان عليه أن يشرح طبيعة المهام المطلوب منهم تنفيذها. وهو أمر هام لأي قائد ناجح أو شركة كبيرة، لأنه إن لم تكن هذه المهام واضحة ومحددة، ستحدث حالة من “التوهان”، ولا يعلم التلميذ (أو الموظف) ما المطلوب منه أن يفعله، وما المطلوب منه ألا يفعله؟

ولأنه هناك مهمتان كبيرتان، في شكل إرساليتين متمايزتين من المسيح لتلاميذه كما عرفنا من قبل؛ فقد اختلفت مهام تلاميذه بحسب توقيت وغَرضْ كل مهمة، وأيضًا بحسب اِختلاف منطقة العمل الخاصة بهما Work Area، وبحسب اختلاف جمهورها المستهدف Target segment.

منطقة العمل

فبالنسبة لإرسالية الاثنى عشر، نقرأ فيها عن المسيح «ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ... يَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ... وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»(متى١٠: ١، ٥، ٦).

والحقيقة أن كثير من المفتريين زورًا، فهموا الكلام السابق بطريقتهم الانتقائية، واعتبروا أن هذه الإرسالية دليل على عنصرية المسيح، وتَعصبهُ لجنسه اليهودي، لأنه يمنع تلاميذه من التبشير للأمم والسامريين، ويوصيهم فقط بالذهاب إلى خراف بيت إسرائيل، وكأنه لا ضالين غيرهم.

ولكنهم غفلوا عن أن المسيح خصص هذه الإرسالية لليهود «لأنه إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا١: ١١)، ولهذا أعطى تلاميذه سلطانًا لشفاء الأمراض وإخراج الشياطين، لأن هذه هي اللغة التي يفهمها اليهود جيدًا.

أما الإرسالية الثانية؛ إرسالية السبعين، فنقرأ فيها «وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ» (لوقا١٠: ١). فمنطقة عمل هذه الإرسالية أوسع جغرافيًا من الأولى، لأن هؤلاء السبعين تم إرسالهم إلى القرى والمدن التي كان المسيح مزمعًا أن يمر بها في طريقه لأورشليم، فنقرأ «وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ» (لوقا٩: ٥١-٥٢).

ما أروعك أيها المسيح القائد... تعرف أن التخطيط لا يضاد الاتكال على الله... فخططت لتلاميذك نطاق عملهم... وأرسلتهم للمدن والقرى قبلك وأمامك... لكي تكون قلوب الناس مهيئة لكلماتك وأعمالك... فيا لك من قائد!!

مبادئ المهمة

وبعد أن حدَّد المسيح نطاق عمل تلاميذه في كل إرسالية، بدأ يضع لهم أهم مبادئه، والتي عرفتنا أيضًا على روعة شخصيته.

أولوياتكم

فقال المسيح لتلاميذه: «وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى» (متى١٠: ٧-٨)، وهو نفس الترتيب الذي ذكره لوقا «وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى» (لوقا٩: ٢). فالمسيح أوصى تلاميذه بأن يكرزوا بملكوت الله أولاً، الذي أصبح في متناول الناس At hand بعد مجيء المسيح إليهم. وبعد أن يكرزوا، يمكن للتلاميذ أن يستخدموا سلطان شفاء المرضى وإقامة الأموات، لإثبات ما سبق وكرزوا به. فما قيمة جسد سليم، لإنسان هالك أبديًا في الجحيم الرهيب؟!!

نزاهتكم

ثم أكمل المسيح أمره لتلاميذه: «مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا» (متى١٠: ٨)؛ وهو مبدأ هام يكشف دوافع المزيفين، ويفضح الغث من الثمين، فكما أن المسيح قدَّم كل ما لديه مجانًا، ولم يأخذ درهمًا واحدًا ثمنًا لأي معجزة، فكذلك أمر تلاميذه أن يستخدموا السلطان المُعطى لهم مجانًا، فالإنجيل أغلى من أن يُباع أو يشترى.

كم أنت شريف أيها المسيح... لم تبحث أبدًا عن ربح قبيح، ولم تتجر بما عندك رغم أنه كثير... فلم تُرسل تلاميذك لجمع الجزية والأموال من الناس... لأنك لا تبيع الروحي بالمادي، ولا تستبدل الأبدي بالزمني، كما يفعل المزيفين والمدَعين... فيا لك من قائد عجيب!!

احتياجاتكم

ثم استطرد المسيح: «لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ، وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا، لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ» (متى١٠: ٩، ١٠).

فالمسيح حظر على تلاميذه أخذ الذهب والفضة والنحاس التي تشتري الاحتياجات الحالية، لأن الله مهتم بها كلها، وقد سبق وقال المسيح للجموع أن «أَبَاكُمْ (الله) يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (متى٦: ٨)، فما بالك باهتمامه بتلاميذه المرسلين الذاهبين لنشر رسالته؟!!

كما منع المسيح تلاميذه من أخذ مزود، وثوبين، وأحذية، وهي الاحتياطات المستقبلية التي تشغل كثيرًا فكر الإنسان؛ فإن كانوا يبشِّرون الناس بضمان مستقبلهم الأبدي، فكيف لا يهتم الله بضمان مستقبلهم الأرضي؟!

حمايتكم

ونلاحظ أن رواية مرقس عن أمر المسيح لتلاميذه هنا مختلفة قليلة عن لوقا ومتى، فنقرأ «وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ» (مرقس٦: ٨). وهنا قد يبدو أن هناك تناقضًا ظاهريًا بين الأناجيل، فبينما يمنع المسيح تلاميذه من أخذ عصا معهم في إنجيلي متى ولوقا، يبيح لهم أخذها في إنجيل مرقس!!

لكن الأمر بسيط؛ فالمقصود في إنجيل مرقس (إنجيل الخادم)، أن يكتفي التلاميذ بالعصا العادية، والتي يستندون عليها في السفر لمسافات طويلة، أما في إنجيلي لوقا (ابن الإنسان) ومتى (الملك)، يمنع المسيح تلاميذه بسلطانه من أخذ عصا إضافية للحماية من أخطار الطريق المحتملة، لأنه كفيل بحمايتهم.

إقامتكم

ثم يواصل المسيح أوامره لتلاميذه قائلاً: «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا. وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًّا فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَلْيَرْجعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ» (متى١٠: ١١-١٣)، وهذا الأمر كرره أيضًا لوقا (لوقا٩: ٤)، ومرقس (مرقس٦: ١٠).

فهنا يأمر المسيح تلاميذه ألا ينتقلوا في الإقامة بين البيوت في البلد التي يزورونها، بحثًا عن راحة أو رفاهية، لكن يقيموا في البيت الأول الذي يقبلهم باسم المسيح، مهما كان مستواه أو ما يقدَم لهم فيه، ويكون تركيزهم الوحيد وهدفهم الجليل أن يكونوا هم سبب للبركة والخير لمن يقيمون عنده.