في عام ٢٠١١، تركت الدانماركية “أنيا رينجرين” البالغة من العمر ٣٧ عامًا، بلدها الأم بأوربا – الدانمارك – لتذهب طواعية للعيش في نيجيريا بإفريقيا، والتي تعد واحدة من أخطر الدول للأجانب للعيش فيها. وبمجرد وصولها قررت أن تركز كل مجهودها ووقتها لخدمة الأطفال المشردين والمحتاجين للرعاية الطبية بسبب ضعف الأمكانيات المادية والطبية. كانت تعمل ذلك بصفة يومية بمنتهى الحب والتضحية، حتى جاء اليوم الذي لم يكن في حساباتها بالمرة؛ إذ تم إلتقاط صور لها وهي تهتم بطفل في حالة مزرية وطبية خطيرة؛ إذ ألقاه أهله في الشارع وهو لم يتعد ٣ أعوام، بسبب إعتقادهم إنه سبب للشؤم والفقر والمرض، ومصدر للنحس في بيتهم حسب إعتقاداتهم. لم يكن أمام الطفل سوى الجولان “عاريًا” في شوارع القرية باحثًا عن طعامه وشرابه ما بين أكوام القمامة وبرك المياه، إذ كان الجميع يرفضه ويهرب منه. تمكن التعب والمرض منه جدًا، حتى إلتقته “أنيا” جائلاً في الشوارع. وكأول رد فعل لها قامت بسقيه للماء، تصادف مرور صحفي فإلتقت لهما صورة سويًا. إنتشرت الصورة كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولت “أنيا” لتريند عالمي وحصلت على تعاطف الكثير من الهيئات الخيرية على مستوى العالم، وصنفتها بعض الصحف الدانماركية كواحدة من أكثر الشخصيات إلهامًا للدانماركين لعام ٢٠١٦. تعلقت أنيا بالطفل جدًا حتى إنها تبنته وأطلقت عليه إسم “هوب = أمل”. وعلى أثر تلك الصورة تلقت الكثير من التبرعات المادية والتي استغلتها في شراء قطعة أرض أقامت عليها مدرسة ومستشفى للأطفال لصالح الأطفال المشرديين والمطرودين من أهاليهم. وأطلقت عليها “أرض الأمل”، ليلتقي فيها الأطفال المطرودين والمنبوذين من مجتمعهم بالأمل والراحة.
استقرت “أنيا” بنيجيريا وتزوجت من شاب نيجيري، وكبر الطفل هوب في أحضانهما واستعاد صحته. صارت “أنيا” شخصية عالمية واستضافتها الكثير من الهيئات الخيرية والاجتماعية، كل ذلك بسب أحشاء الرأفات لديها!!
أصدقائي، لقد توجهت “أنيا” بمنتهى الحب للمحتاجيين والمشرديين، ولقد تعلمت من قصتها بعض الدروس، أشاركك بها:
١- الحاجة إلى الماء
لا شك أن الماء عنصر أساسي لاستمرار حياة الإنسان؛ فبدونه لا تستمر الحياة، كما إنه عنصر حيوي من مكونات الجسم البشري. هذا ما ظهر بوضوح في حياة الطفل “هوب” الذي كان يصارع الموت بسبب انقطاع الماء عنه، و دبت فيه الحياة من جديد عندما ناولته "أنيا" الماء.
هذ ينطبقا تمامًا على الجانب الروحي للحياة، الماء عنصر أساسي لنمو العلاقة والمعرفة بالله. قطعًا لا أقصد الماء الحرفي، لكن الماء الحي الذي تكلم عنه الرب يسوع بنفسه «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا٧: ٣٧-٣٨). ففراغ العالم رهيب وكل من يشرب من مائه حتمًا سيعطش ثانية من دون اختبار الارتواء الحقيقي، هذا ما أكده الرب للمراة السامرية «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا٤: ١٠-١٤).
أحبائي، إن الإرتواء بهذا الماء الحي “من خلال كلمة الله والتغذي على تعاليم الرب يسوع” له بركات وامتيازات عظيمة «طُوبَى لِلرَّجُلِ... فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَارًا وَلَيْلاً... فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ» (مزمور١: ١-٣). لذا دعونا نتعلم من الأيائل كما تعلم منها الملك داود «كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟» (مزمور٤٢: ١-٢).
٢- رفض و إزدراء
الشعور بالرفض، الأهمال والازدراء شعور مؤلم ومُذل جدًا. تعرض“هوب” لذلك الأحساس بالرغم من صغر سنه لأسباب ليس له أي دخل فيها. أعزائي، قد نواجه نفس المشاعر بصورة أو بأخرى ولا أحد مننا ينكر صعوبة وقسوة تلك المشاعر على النفس البشرية، لكن دعوني أوجه النظر إلى سيدنا ومخلصنا الرب يسوع المسيح الذي كان «لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ» (إشعياء٥٣: ٢-٣). لقد رُفض من أقرب الأقرباء «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا١: ١١). لكن هذا المرفوض والمحتقر سيأتي يومًا وذا قريب عندها سيُرد له اعتباره ويُكرم من الجميع «لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيلبي٢: ١٠-١١). لذا يا أحبائي، دعونا نثبت النظر على مسيحنا الذي ينظر إلى مسكنة المسكين والذي لا معين له.
٣- النزول الي البسطاء
لقد قرَّرت “أنيا” طواعية النزول من بلدها الغني لتعيش وسط الفقراء والمساكين في إفريقيا. نزولها هذا كان مُغلَّفًا بأحشاء الرأفة والمحبة والعطف على المحتاجين. هذا ما رأيته جليًا في المحب الأعظم - الرب يسوع المسيح - «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ...» (فيلبي٢: ٦-٩). ما أحلى اتضاع المسيح إلينا لينتشلنا من بحور خطايانا ويعطينا الحياة بموته على الصليب نيابة عن كل الخطاة، فهل استفدت يا صديقي بموته عنك؟!
صلاة: سيدي الغالي المسيح.. كنت وحدي مُلقى مشردًا على قارعة الطريق، رأيتني بعيون الحب وقلبك الرقيق، وانتشلتني من بحر خطاياي أنا الغريق، لأسير معك المشوار يا أغلى رفيق، دعني أثبت النظر عليك مهما اشتد الضغط والضيق.