بعد أن أعد المسيح تلاميذه نفسيًا للذهاب إلى الإرسالية، ووضع لهم ما يفعلوه وما لا يفعلوه فيها، صنع أمرًا نادرًا معهم، يخاف أن يفعله أي قائد.
فالمسيح بدأ يذكر لتلاميذه بعض المخاطر التي يمكن أن تواجههم في إرساليتهم؛ وهو أمر عجيب، لأن ذِكر هذه المخاطر قد يأتي بتأثير عكسي، وقد يدفع بعض التلاميذ للتراجع عن الإرسالية. ولكن المسيح لم يخشَ من هذا الاحتمال، وكل غرضه أن ينبه تلاميذه لما يمكن أن يقابلهم، ليعرفوا كيفية التصرف الصحيح فيها، وهذا ما يعرف في علم القيادة بـ “إدارة المخاطر”.
عنف البشر
أول خطر نجده فيما قاله المسيح لتلاميذه: «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ» (متى١٠: ١٦). وهنا يوجد أربع أنواع من الحيوانات والطيور؛ والغنم هم التلاميذ وسائر المؤمنين، أصحاب الرسالة السَمحة الخالية من أي عنف، وهو وصف ليس بجديد عليهم، لكن كرره المسيح عدة مرات (يوحنا١٠: ٢٧؛ ٢١: ١٥).
ولأن هؤلاء التلاميذ الغنم، سيُرسلون للتعامل مع الذئاب، وهم البشر المقاومين لهذه الرسالة، وهم من حذر منهم المسيح في موعظته على الجبل قائلاً: «اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!» (متى٧: ١٥). وقد أمر المسيح تلاميذه أن يسلكوا وسطهم بحكمة «الحيات» التي تنسحب وقت اللزوم، فلا يضيعوا مجهودهم في مجادلات تشتتهم، ولا يستفزوا الأخطار بلا داعٍ لصنع بطولة وهمية لهم.
وهنا درس هام لنا، ففي هذه الأيام يستنزف إبليس طاقة المؤمنين وأوقاتهم الثمينة في حوارات جانبية بلا داعٍ، فالنقاش الدائر حاليًا على صفحات التواصل الاجتماعي؛ الخادم الفلاني هرطق، والعلاني انحرف، الفلاني أصاب والعلاني أخطأ، وأصبح أغلب المؤمنين يجلسون في مواقع النقاد والمعلقين على غيرهم، وتركوا الساحة خالية لإبليس، لينشر الفساد ويشكك في المكتوب ويشتكي على المؤمنين.
وأيضًا على تلاميذ المسيح أن يكونوا مثل الحمام في بساطتهم وسلامة نيتهم؛ فطالما أن الله مسيطر على كل الأمور، فليس عليهم القيام بأي رد فعل عنيف إذا رفض الناس بشارتهم ورسالتهم.
محاكمات السُلطة
ولم تنتهِ الأخطار عند الناس المستذئبة، لكن تابع المسيح كلامه لتلاميذه: «وَلكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ» (متى١٠: ١٧، ١٨).
فاليهود المتعصبين، لن يكتفوا برفض رسالة المسيح، لكنهم قد يسلمون تلاميذه إلى مجالسهم ويجلدونهم في مجامعهم، رغم أنها من المفترض أن تكون أماكن تعليم ناموس الله وليس جلد الأبرياء، وهذا يمثل المحاكمات الدينية.
وقد يزداد اليهود في قساوتهم، ويتحالفوا مع جلاديهم، فيسوقوا التلاميذ إلى ملوك الأمم الذين يحتلون أرضهم، وهذا يمثل المحاكمات المدنية.
وهنا يتحقق هدف فرعي لمهمة التلاميذ، فرغم أن هذه الإرسالية كانت فقط لليهود، وقد قالها المسيح لهم صراحةً: «إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ» (متى١٠: ٥، ٦)، إلا أنه بسبب شر اليهود، وتقديمهم لتلاميذ المسيح للمحاكمة أمام الأمم، ستتاح فرصة مجانية وسهلة لرسل المسيح أن يكرزوا بالمسيح أمام ولاة وسلاطين (أو بلغتنا قضاة وضباط) كان من الصعب الوصول إليهم مباشرةً.
وهنا درس هام جدًا لنا فكما أن الله يستطيع بسلطانه أن يمنع شر الإنسان قبل أن يحدث، كما فعل مع أبيمالك قديمًا، حين قال له في حلم: «أَنَا أَيْضًا عَلِمْتُ أَنَّكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبِكَ فَعَلْتَ هذَا. وَأَنَا أَيْضًا أَمْسَكْتُكَ عَنْ أَنْ تُخْطِئَ إِلَيَّ، لِذلِكَ لَمْ أَدَعْكَ تَمَسُّهَا» (تكوين٢٠: ٦)، فإن الله يستطيع أيضًا بسلطانه أن يسمح لفاعل شر أن يفعله بكل حريته، وسيدينه عليه، ثم يأخذ هذا الشر ويحوله خيرًا، كما قال يوسف لإخوته: «أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا» (تكوين٥٠: ٢٠). وبالتأكيد فإن قصد الخير لله غير المحدود، سيفوق قصد أي إنسان بالشر لأنه محدود.
فمهارة السائق لا تظهر فقط عبر تجنب المطبات والحوادث، ولكن عبر تصرفه الجيد بعد أن تحدث، ومهارة الصانع ليست فقط في أن يصنع تحفة جميلة من مادة جديدة، ولكن أن يصنع تحفة مثلها من مادة رديئة وسبق أن فسدت.
غدر الأقارب
ثم يقول المسيح لتلاميذه: «وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ» (متى١٠: ٢١). وهذا الخطر أصعب على نفس الإنسان من سابقيه؛ لأن المقاومين هنا ليسوا غرباء بل أقرباء، فرفض البعض لرسالة المسيح قد يقودهم إلى اضطهاد حامليها، حتى لو كانوا اخوتهم أو آبائهم أو أولادهم، فيتنكروا لهم، ويرفعوا راية التعصب لعقائدهم وطوائفهم.
وهذا يفسر كلام المسيح اللاحق في نفس الإصحاح «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا» (متى١٠: ٣٤)، والذي فسره بعض الضالين، على أن المسيح جاء برسالة عنف لا سلام، رغم أنهم يقرون بأنه لا المسيح ولا تلاميذه رفع سيفًا ما في يوم ما.
ولكن يوضح المسيح بعدها المقصود من كلامه قائلاً: «فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ» (متى١٠: ٣٥، ٣٦)؛ فالإيمان بالمسيح له تكلفة، ويمكن أن يُلقي بسيفه الحاد بين المؤمنين به وبين أعزائهم وأحبائهم، وحتى بين توائمهم.
ويبقى الأمر المعزي، أنه إن كان الإيمان بالمسيح يكسر علاقة قرابة جسدية وقتية، لكنه يكوِّن مع الله علاقة أبوية أبدية، وأيضًا يعوض الله هذا الإنسان “اليتيم من والديه الأحياء”، بأن يوجد له من المؤمنين؛ الأم التي ترق، والأب الذي يدعم، والأخ الذي يسمع، والأخت التي تهتم، وإن لم يوجدوا فالله قادر على أن يقوم بدورهم جميعًا.