ظللت لشهور أعبر بشكل دوري أمام هذه النخلة المنحنية، وفي كل مرة أردد هذه الآيات:
«اَلصِّدِّيقُ كالنخلة يَزْهُو» (مزمور٩٢: ١٢).
«قَامَتُكِ هَذِهِ شَبِيهَةٌ بالنخلة» (نشيد٧: ٧).
«عَيْنٌ مُكَدَّرَةٌ وَيَنْبُوعٌ فَاسِدٌ، الصِّدِّيقُ الْمُنْحَنِي أَمَامَ الشرير» (أمثال٢٥: ٢٦).
إلى أن جاء يوم رأيت فيه شبهًا بين حالي وحالها، فلم أستطع إلا أن أتوقف والتقط صورة لها وأنا أتساءل:
تٌرى ماذا ألمَّ بالعروس التي شَبَّه الحبيب قامتها بالنخلة، وبالصِّديق المفترَض أنه كالنخلة يزهو؟ ماذا حدث لهما حتى انحنوا بهذا الشكل؟ ولماذا أنتِ منحنية يا نفسي؟!
تُرى هل أُصيبت بمرض “انحناء القلب”؟ المرض الذي يصيب قلب النخلة أساسًا، ومنه ينتشر إلى رأسها، فيسمى أيضًا مرض “انحناء الرأس Bending Head”، وهو المرض الذي يحني رؤوس وقمم النخيل الشامخة.
وآه لمَّا بحثت عن السبب، فوجدت أن سبب مرضها قد يكون إروائها بمياه ملوثة بنوع معين من الفطريات!
هل لهذا وُصِفَ الصديق المنحني أمام الشرير بعين مكدرة وينبوع فاسد؟! وكأن سبب انحناء هذا الصديِّق هو شربه ماءً ملوثًا فاسدًا، فصار هو نفسه عين مكدرة وينبوع فاسد، لا يجلب الارتواء لقلب الله ولا قلوب الآخرين.
هل شربت السامرية ماءً فاسدًا لا يروي، فعطشت أكثر واضطرت أن تأتي مرارًا وتكرارًا منحنية - تحت ثقل جرتها - معيية بطول أسفارها، لتصل إلى بئرها فتنحني عليه أكثر وأكثر لتستقي؟
المعنى
أما عن الكلمة “المنحني” في هذه الآية فتأتي بمعانٍ مختلفة تحذِّرنا مما يلوث الصدِّيق فيقوده للإنحناء:
يُفسح الطريق أمام الشرير.
يتداعى - يتعثر - يسقط أمامه.
يساوم أو يحاول مسك العصا من المنتصف.
وهكذا نجد أولاً علاجًا وقائيًا مُهمًا وهو: ألا نفسح للشرير مكانًا، «وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا» (أفسس٤: ٢٧). أي ننكر عليه حق أن يكون له محل إقامة في حياتنا ولا حتى وطأة قدم.
وثانيًا: ألا نسقط أمامه بل نتضع قدام الله، وعندها يسهل علينا مقاومة إبليس، فيهرب منا. «فَاخْضَعُوا ِللهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يعقوب٤: ٧).
ولقد كان مردخاي اليهودي مثالاً رائعًا لنا في ذلك، إذ لم ينحنِ أمام الشرير هامان، فكانت النتيجة أن سقط هامان قدامه سقوطًا! «وَقَصَّ هَامَانُ عَلَى زَرَشَ زَوْجَتِهِ وَجَمِيعِ أَحِبَّائِهِ كُلَّ مَا أَصَابَهُ. فَقَالَ لَهُ حُكَمَاؤُهُ وَزَرَشُ زَوْجَتُهُ: إِذَا كَانَ مُرْدَخَايُ الذي ابتدأت تَسْقُطُ قُدَّامَهُ مِنْ نَسْلِ اليهود، فَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، بَلْ تَسْقُطُ قُدَّامَهُ سُقُوطًا» (أستير٦: ١٣).
وثالثًا: إننا لا نجهل أفكاره ولا نجهل حيله. فمعرفة استراتيجية العدو تعني كسب التفوق في المعركة! وواحدة من استراتيجياته الناجحة هي التفاوض معه لعلنا نصل لحل وسط، وهكذا كما قالوا: “إن كل من وقف ليتفرج على بضائع إبليس، اشترى منها!” لكن كما لا ينبغي أن نعطي إبليس مكانًا، هكذا أيضًا لا ينبغي أن نعطيه وقتًا! فلقد جرَّب هذه الخطة مع حواء قديمًا، ونجحت. عندما يطول الحوار مع الحية تألف آذاننا صوت فحيحها، وعندها تسمع الأذن صوت الرب الإله فتختبئ منه بكل أسف!
مصادر ارتواء
لكن وإن تحذرنا من مصادر التلوث، فهل هناك مصادر أخرى يشرب منها الصديق ويرتوي فيعود ليرفع الرأس عاليًا؟
نعم بكل تأكيد. «مِنَ ٱلنَّهْرِ يَشْرَبُ فِي ٱلطَّرِيقِ، لِذَلِكَ يَرْفَعُ ٱلرَّأْسَ» (مزمور١١٠: ٧).
فلنا مصادر وإمدادات إلهية بطول الطريق، لنا روح الله الذي ينعشنا بكلمة الله إذ يحدثنا عن ابن الله، فالروح القدس (يوحنا٧: ٣٨-٣٩) شفيعنا على الأرض، يعين ضعفاتنا ويشفع فينا. هو “الباركليتوس”، الشخص الواقف بجوارنا ليعيننا، ويذكِّرنا بكل ما قاله المسيح لنا، فيمدّنا بإمداد سماوي، بالكعكة الرضف وكوز الماء التي تجدِّد طاقتنا وتهوِّن سفر المسافة الطويلة علينا: “وإن طريقك طويلاً يوجد، فهو كنسر عزمك يجدد”. “يوالينا الحديث في الطريق مثلما يحكي الصديق للصديق”، كحديث العبد لرفقة الذي أنعشها وهوّن عليها رحلتها الشاقة.
وأيضًا نجد مصدرًا علويًا في قصة المرأة المسكينة التي جاءت بانحنائها إذ ربطها الشيطان ١٨ سنة، «وَإِذَا امرأة كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ البتة» (لوقا١٣: ١١) لكن لما رآها دعاها، وقال لها: يا امرأة إنك محلولة من ضعفك. ووضع عليها يديه ففي الحال استقامت ومجدت الله. وهذا اللفظ اليوناني “البتة” جاء مرة ثانية وحيدة، تُرجمت في العربية “إلى التمام”: «فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى ٱلتَّمَامِ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى ٱللهِ، إِذ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين٧: ٢٥).
وهذا هو المصدر الثاني، إنه رئيس الكهنة العظيم، الرب يسوع المسيح الذي هو – أيضًا - شفيعنا في السماء، القادر أن يترفق بالجهال والضالين نظيرنا، فمن ثم يقدر أن يخلص “إلى التمام” المنحنية التي لم تقدر أن تنتصب “البتة”. فإنَّ: «اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ لساقطين، وَمُقَوِّمٌ كُلَّ ٱلْمُنْحَنِينَ» (مزمور١٤٥: ١٤). «ٱلرَّبُّ يُقَوِّمُ ٱلْمُنْحَنِينَ. ٱلرَّبُّ يُحِبُّ ٱلصِّدِّيقِينَ» (مزمور١٤٦: ٨).
الرب يحب الصديقين الذين أقامهم إذ كانوا منحنين، فأعادهم لوضعهم الصحيح فصاروا كالنخلة يزهون.