تعاطفت شعوب وحكومات العالم أجمع مع حرائق الغابات التي اندلعت في أستراليا نهاية عام ٢٠١٩ وبداية ٢٠٢٠، حيث إنها واحدة من أعنف حرائق الغابات على مَرّ التاريخ. تم إرسال المعونات والتدعيمات من الدول الأخرى لإطفاء النيران. أُقيمت الصلوات تضرُعًا للرب أن ينزل بالمطر لإطفاء النار وإنقاذ الشعب والأراضي الأسترالية من تلك الكارثة المدوية والتي راح ضحيتها ما لايقل عن نصف مليار حيوان وطائر بحسب تقارير كثير من المواقع والصحف الإخبارية.
بعد استجابة الرب بنزول المطر، بالإضافة إلى سيطرة القوات على الوضع هناك، تم طرح السؤال عاليًا في كثير من وسائل الإعلام: لماذا احترقت غابات أستراليا بتلك السرعة وذلك الانتشار لتتحول إلى جحيم حرفي لهلاك كثير من البشر والحيوانات؟ اختلفت التفسيرات والتحليلات ما بين: الاحتباس الحراري للمناخ، إنقطاع الأمطار والجفاف، قلة الامكانيات أمام ضخامة الحدث. لكن هناك فريق آخر كان له رأي مختلف، اتفق عليه بعض الخبراء والمحللين وأيَّده بقوة السكان الأصليين للبلاد. فقد أكدوا وجود “مجرم” وراء تلك الحرائق، مجرم بجناحين، لا يقل خطورة عن تلك العوامل الأخرى. إنهم “صقور النار” كما يسميها السكان الأصليون من مئات السنين. والسؤال هنا: كيف أشعلت “صقور النار” غابات استراليا؟ بمتابعة سلوكيات تلك الجوارح، لاحظوا إنها تستغل النيران المشتعلة في الأشجار مهما كانت صغيرة أو قليلة، فتحمل الأعواد المشتعلة بفمها أو مخالبها، وتطير بها لتلقيها فوق الأعشاب الجافة في مناطق أخرى مما يزيد من البقع المشتعلة بالنيران، مما يسهِّل مهمة الصيد عليها إذ تتسع مساحة الصيد بإجبار الزواحف والحيوانات والقوارض على الهروب من جحورها خوفًا من نيران الغابات المشتعلة وبالتالي تصبح صيدًا سهلاً لتلك الصقور؛ إذ أن الهاربين إما فقدوا حياتهم أثناء الهرب من النار أو التهمت النيران أجزاءً من أجسادهم فلم يعُد لديهم أي قوة للهرب من المصير المحتوم.
اندهشت جدًا من سلوكيات تلك الصقور وكيف نجحت في إحراق غابات إستراليا وتحوليها إلى مجرد أكوام رماد بمجرد نقل أعواد الخشب المشتعلة وإلقائها على أماكن جافة مستعدة للاشتعال فكانت تلك النتيجة. لذا، أريد أن أشاركك بثلاث أفكار رئيسية يمكن تعلُّمها من صقور النار:
١- عجز الإنسان
ظهر، وبكل وضوح، الضعف البشري في أصعب صوره أمام حرائق أستراليا؛ فكيف لبلد بكل تلك الأمكانيات والمصادر أن تقف عاجزة عن إطفاء نار الغابات لأسابيع عديدة حتى جاءت الإغاثة السماوية من فوق بنزول الأمطار؟ وهنا أريد أن أوضح إنه سيأتي يوم وذا قريب جدًا سيكون الحريق فيه ليس في استراليا فقط، لكن في العالم أجمع «وَلكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي اللَّيْلِ، يَوْمُ الرَّبِّ، الَّذِي فِيهِ تَزُولُ السَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ الأَرْضُ وَالْمَصْنُوعَاتُ الَّتِي فِيهَا» (٢بطرس٣: ١٠). لكن المفارقة هنا أن الحل السماوي قد أُعد سابقًا لحريق العالم بمجيء المسيح إلى عالمنا وموته وصلبه على عود الصليب محتملاً كل نيران العدل الإلهي لكي ما يخلصنا جميعًا. فهل تحتمي فيه قبل فوات الأوان؟!
٢- أعواد النيران
استخدمت صقور النار أعوادًا “صغيرة محترقة” لإشعال نيران كبيرة في الأشجار والغابات، مما سبَّب دمارًا شاملاً، أدّى إلى إنفاق ملايين من الدولارات وموت كثير من الحيوانات. في الحقيقة، أعقاب النيران الصغيرة هذه ليست بعيدة عننا كبشر في علاقتنا مع بعضنا البعض، فكثيرًا مما تتسبب “أمور صغيرة” في دمار كبير في العلاقات داخل البيوت، العائلات، الاجتماعات،... دعني أشاركك ببعض تلك الأمور التي يحذرنا منها الكتاب المقدس:
أ) اللسان: فكم من علاقات انهارت وبيوت انقسمت بسبب كلمات التجريح والإهانة. ليحفظنا الرب و“يضع حارسًا على باب شفتينا” لنتحكم في لساننا وكلماتنا «هكَذَا اللِّسَانُ: عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟ فَاللِّسَانُ نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ» (يعقوب٣: ٥-٦).
ب) الكبرياء والتشامخ: إن الكبرياء خطية كريهة لدى الرب، وكم من نفوس تحت وطأة التعب والضغط والانحناء بسبب تكبُّر وتعالي الآخرين مما يصيبهم بصغر النفس واحتقار الذات. احذر يا عزيزي فإن «قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ» (أمثال١٦: ١٨).
ج) الشهوة: هناك العديد من البيوت والأسر دُمِّرت وانفصلت تمامًا وتشرَّد أفرادها بسبب عدم احتراس أحد أفرادها من “عُقب” نار صغير اسمه “الشهوة”، ومعه تزداد نار الغيرة، الرفض، الانتقام... لذا حذرنا الحكيم سليمان قائلاً «أيَأْخُذُ إِنْسَانٌ نَارًا فِي حِضْنِهِ وَلاَ تَحْتَرِقُ ثِيَابُهُ؟ أَوَ يَمْشِي إِنْسَانٌ عَلَى الْجَمْرِ وَلاَ تَكْتَوِي رِجْلاَهُ؟» (أمثال٦: ٢٧-٢٨).
د) كلام النمام: النميمة عادة سيئة وخطيرة جدًا إذ يتم الحديث (عادة سلبيًا) عن الشخص في غيابه، وهي خطية سيئة جدًا يمقتها الرب، هل تذكر معي عقاب الرب لمريم أخت موسى؟ النميمة كثيرًا ما تؤدي إلى إنهاء ودمار علاقات تمامًا، فهو مثل النار الصغيرة التي تشتعل بسهولة وسرعة من دون أن نلاحظ. وأيضًا حذَّرنا منها سليمان الحكيم قائلاً «بِعَدَمِ الْحَطَبِ تَنْطَفِئُ النَّارُ، وَحَيْثُ لاَ نَمَّامَ يَهْدَأُ الْخِصَامُ... كَلاَمُ النَّمَّامِ مِثْلُ لُقَمٍ حُلْوَةٍ فَيَنْزِلُ إِلَى مَخَادِعِ الْبَطْنِ» (أمثال٢٦: ٢٠-٢٢).
٣- إحذر من فخاخ الشيطان
اتَّبعت صقور النار أسلوبًا مخادعًا جدًا، ونصبت من خلاله المصائد لفرائسها لتلتهما بشراهة ومن دون أي مقاومة إذ أجبرت فرائسها للهروب من النار، لكنها تصاب بالحرق والتعب والإعياء؛ فتنقضّ عليها بكل قوة وتلتهمها. عندها تذكرت إبليس المخادع الذي “يسرق ويذبح ويهلك...” أتباعه بإنهاكهم في هموم ومشاكل ومشاغل الحياة؛ حتى ينقضّ عليهم في لحظات الضعف والاستسلام ليكونوا فرائس سهلة له. هل تذكر معي يا عزيزي، كيف دمر الروح الأخرس الأصم حياة الغلام المصروع «وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ» (مرقس٩: ٢٢).