الخاطر الذي كان يراودني من وقت إلى آخر، خاصة كلما تَقدَّم العمر بي، وكلما ودَّعت عامًا ودخلت في عام جديد، وأجده في صيغة سؤال مُلِحّ يختبرني ويفحص حياتي وحالتي من كل جانب: هل صرت أكثر نضوجًا من الأيام الماضية؟ بمرور السنين تبيَّن لي أني سأظل مدى عمري أتطلع لهذا النمو وأبتغي المزيد، ليس كل عام بل كل يوم جديد مهما طال بي العمر. إن النمو في النعمة ومعرفة الرب يسوع المسيح هو بالحقيقة “مشروع العمر كله”. لذلك هيا ندرس معًا هذا الأمر في نقاط محددة بتركيز شديد:
أولاً: مفارقة بين سمات الطفولة وسمات النضوج.
من الفروق الواضحة بين سمات الطفولة الروحية عن البلوغ الكامل ما يلي:
١. في الطفولة شكوى وبكاء باستمرار، أما في البلوغ الكامل صبر واحتمال وتأني.
٢. تتسم حالة الطفولة بمحدودية الفهم، أما في البالغين نجد اتساع الإدراك وازدياد الفهم.
٣. في الطفولة حالة اعتمادية كاملة على الغير، أما في البلوغ نجد تحمل المسؤولية.
٤. في الطفولة لا نجد عمل نافع بل تخريب وعبث، أما في البلوغ الكامل عطاء وخدمة وتضحية.
٥. في الطفولة، تدور حياة الطفل حول طلباته وراحته، أما في البلوغ الكامل نجده مشغولاً بالآخرين.
ثانيًا: مؤشرات النمو ودلائل حدوثه
١- استقامة السلوك واستنارة للذهن
يعرف المؤمن أنه نما روحيًا عندما يلاحظ تغييرًا واضحًا في سلوكه، مثلاً:
- توقَّف عن عادات سيئة كان قد اعتاد السقوط فيها.
- تولَّدت في حياته عادات مباركة صنعت فرقًا حقيقيًا واضحًا في حياته وعلاقته بمن حوله.
- ضبط نفسه في مواقف كان لا يعرف التحكم فيها من قبل.
٢- استنارة الذهن وزيادة التمييز الروحي
- تحوَّلت بعض المعلومات الكتابية التي اعتاد على سماعها إلى قناعات قوية، ملكت على أركان قلبه ولمست مشاعره وأثَّرت على قراراته.
- أدرك أن أبشع شيء في الحياة ليس هو المرض ولا الفقر ولا أي صورة من صور الألم، بل فعل الخطية.
- اقتنع أن القداسة أهم من الرفاهية.
- يدرك أن الألم في مشيئة الله عملية ضرورية من أجل الإنضاج والتنقية.
- أصبح متأكدًا بأن السعادة تأتي من العطاء وليس من الأخذ.
- أصبح لديه قناعة قوية أن البركة ليست في كثرة المال ولا سلامة الصحة وذيوع الصيت، لكن في التمتع بحضور الرب والوجود في مشيئته التي وأن كانت غير مريحة لكنها دائمًا صالحة.
- أدرك أن البيت الممتلئ بالتقوى الحقيقية والمحبة أفضل ألف مرة من البيت المفروش بأفخم الأثاث والأجهزة المنزلية.
- أصبح عنده قناعة أن الحياة لا تنقسم إلى روحية وعملية واجتماعية، لكن هي حياة واحدة لا تنفصل.
- تيقَّن من جهة قوة الصلاة وأدرك أن الارتماء على الرب بالصلاة أفضل ملايين المرات من الفضفضة للناس أو الشكوى والأنين.
- أدرك أن الحياة على الأرض ليست سوى غربة بكل معنى الكلمة، وبدأ يشعر بحنين للسماء التي إليها ينتمي. يوم وراء الآخر يزداد يقينه إنه كائن سماوي مصمم للأبدية.
٣-اهتمامات أعظم وتطلعات أسمى
كانت الحياة قبلاً مشغولة بأمور مؤقتة ودنيوية، لكن أصبحت اهتماماته بما هو أبقى وراقي وأثمن وأسمى.
أ) اهتمامات أعظم
- تحوَّلت اهتماماته عما يسليه فقط وينعش مزاجه إلى ما يبنيه ويغيّره.
- زاد اهتمامه وشغفه بما يقوله الكتاب أكثر من اهتمامه بما يعجبه أو يروق الناس. كما زاد تقديره لرأي الرب أكثر من انطباعات البشر.
- زادت اهتماماته بأحوال الناس وظروفهم وشغلت جزء من صلواته، كما تركزت اهتماماته بأمور الله وخدمته أكثر من راحته أو حتى آلامه الشخصية.
ب) تطلًّعات أسمى
- كان قبلاً يتلهف لأمور اكتشف أنها تافهة وفُطِم عنها لأن تطلعات أسمى قد بدت أمامه.
- تولدت غيرة مقدسة متزايدة أن يكون شخصًا مؤثرًا فيمن حوله.
- أصبح يصلي بطلبات لها بُعد أبدي وروحي، ويتطلع لا لحل المشكلة فقط، بل أن يرى يد الرب وهي تعمل أثناء الأزمة ويرى يديه وهي وتتدخل في كل التفاصيل فيتعزى بما يفعله الله.
٤- ثمر أوفر وصبر أكثر
أ) ثمر أوفر
- من دلائل النمو أن العطاء بدأ يزداد في حياته شيئًا فشيئًا، واختبر أنه هناك سعادة خاصة في خدمة الآخرين التي بدأت تزيد تدريجيًا.
- عندما يفتح الرب أبواب خدمة ويحمِّله مسؤوليات جديدة، وذا لكونه أصبح أكثر استعدادًا للعمل والعطاء والتضحية، لأن الأطفال لا يكلفوا بمهام حساسة أو تحتاج للالتزام والدقة.
ب) صبر أكثر
- كان يعتاد الشكوى وسريعًا ما يخور ويشفق على نفسه، وكان يتعجل الحلول ويشعر بالملل من الانتظار؛ لكن تعلَّم أن يتحَّمل وينتظر بصبر مدة طويلة تحت الضغوط دون أن يخور، منتظرًا شخص الرب وتدخُّله الإلهي.
٥- قداسة أكثر ومحبة أعمق
أ) قداسة أكثر
- من دلائل التغيير أن الحساسية للخطية زادت؛ فنفس الخطأ الذي كان يقع فيه السنة الماضية دون أن يشعر بملامة في قلبه، صار يشعر أنه خطأ كبير ويرتعب من مجرد فكرة أن يقع فيه مرة أخرى.
- الأخطاء التي كان يبرِّرها بمسميات يبرر بها نفسه، الآن يكشفها ويحكم على نفسه.
ب) محبة أعمق
- واحدة من أوضح علامات النمو هي اتساع الصدر وازدياد المحبة، وبالطبع إن زادت المحبة للرب أولًا ستزداد بالتبعية محبته لكلمته ولمحضره ولقطيعه ولخدمته... الخ. عمومًا، عندما يزيد منسوب القداسة ومخافة الرب في حياتنا، سنختبر أن المحبة ستفيض في كل اتجاهاتها.
كما أن أحد الوسائل الفعالة التي يستخدمها الرب معنا، حتى وإن كنا لا نحبها أو نفضلها، لكن يرى الله الذي يعرف طبيعتنا أنه يلزم الأمر في أحيان كثيرة أن يسمح بآلام وبتجارب وضيقات متنوعة، بها ينضجنا ويفطمنا عن أمور تعلَّقنا بها، وبهذه الآلام ينقلنا من مرحلة الطفولة إلى النضوج الكامل.