تأثرت مع كثيرين لوفاة “مارجريت نبيل” طبيبة التخدير داخل غرفة العمليات بمستشفى الساحل التعليمي بالقاهرة، التي فاضت روحها وجسدها مبلل بعرق الكد والعمل، كي تخفف الآلام عن المرضى، فبعد أن انتهت من إجراء التخدير لـثلاث حالات، سقطت مُغشيًا عليها، ولم تفق بعدها. وقد تحوّل “أكونت” الطبيبة على موقع “فيسبوك” إلى دفتر عزاء ورثاء، فقد نالت إعجاب الكثيرين نظرًا لعطائها حتى النفس الأخير. كانت الراحلة قبيل وفاتها نشرت بوستًا تقول فيه: “احتملوا أخطاء غيركم كما يحتمل الله أخطاءكم... احتملوا لا في ضيق ولا في مرارة قلب، إنما في حب، فلكل إنسان ضعفاته، وله أعذاره التي لا تعرفونها”. والحقيقة لم أستطيع أن أخفي مدى تأثري بالطبيبة الشابة التي احتملت وتعبت، أفادت وخدمت حتى النفس الأخير، وكم تمنيت أن تكون حياتي نافعة ولها معنى، بهذا الشكل الرائع.
عزيزي وعزيزتي، ماتت مارجريت وهي شابة؛ فالموت يأتي في أي وقت، وفي أي عمر، وفي أي مكان، وبأي طريقة، لذلك يقول الحكيم: «فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنِينَ إِذْ تَقُولُ: لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ» (جامعة١٢: ١).
ماتت وهي تعمل
لم تتوقع “مارجريت” طبيبة التخدير بمستشفى الساحل التعليمي إنها لن تعود إلى بيتها أبدًا. لقد ذهبت لعملها صباحًا، ووقعت “حضور”، لكنها لم توقع “انصراف” ككل يوم، لا شك في أنها كانت تأمل أن تعود كعادتها، مُسرعة إلى بيتها، لتقوم بإعداد الطعام الذي يحبه أولادها وزوجها، وهكذا تحلم بأمل جديد ويوم سعيد، يحمل سلامًا وأمانًا. وفجأَة يتبخر كل شيء، وتذهب وبسرعة لبيتها الأبدي. لذلك ليتنا نتحذر ونستعد لمواجهة هذا الضيف الثقيل، لذلك يقول الكتاب: «لأَنَّ الإِنْسَانَ أَيْضًا لاَ يَعْرِفُ وَقْتَهُ. كَالأَسْمَاكِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِشَبَكَةٍ مُهْلِكَةٍ... كَذلِكَ تُقْتَنَصُ بَنُو الْبَشَرِ فِي وَقْتِ شَرّ، إِذْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً» (جامعة٩: ١٢).
ماتت وهي تُخدِّر
فطبيب التخدير هو المسؤول عن تتخدير المرضى بأمان، قبل الجراحة، وأثناءها، وإفاقتهم بعدها. لقد خدرت حالتان، وافاقتهما بسلام، وخدرت الحالة الثالثة، لكن قبل أن تقوم بإفاقتها، ماتت الطبيبة، فيا للمأساة! الطبيبة التي تفيق المرضى، لم يكن بيدها أن تفيق نفسها. لعل ذلك يذكرنا بالقول: «أَيُّهَا الطَّبِيبُ اشْفِ نَفْسَكَ!» (لوقا٤: ٢٣-٢٤). وإن كان سياق الكلام هناك مختلف، إلا أن الحقيقة الثابتة أن الإنسان محدود وعاجز أمام الموت ملك الأهوال مهما كان عمله أو علمه أو مركزه، فماذا يفعل الطبيب أمام الموت سوى الاستسلام التام؟ لذا ليتنا نسرع للمسيح القوي فهو الوحيد الذي غلب الموت، وكسر شوكته، وقام منه.
ماتت وهي نافعة
ماتت وهي تؤدي عملاً نبيلاً ونافعًا، فهل نحن عمال نافعون في ملكوت الله؟ كان أنسيمس عبدًا لفليمون، وكان بعيدًا جدًا عن الله، فظلم سيده، وسلبه، وسافر بعيدًا. لكن لم يكن أبدًا بعيدًا عن نعمة الله، فقد قبل المسيح ربًا ومُخلصًا، لذلك كتب بولس لفليمون رسالة قال فيها: «أَطْلُبُ إِلَيْكَ لأَجْلِ ابْنِي أُنِسِيمُسَ، الَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي، الَّذِي كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لَكَ، وَلَكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ لَكَ وَلِي» (فليمون١٠-١١). فهل الكاتب والقارئ العزيز نافعان؟ ليتنا نكون كذلك.
حياة رائعة
إن الرب الذي أبدع الكون، رسم خطة رائعة لكل واحد: «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس٢: ١٠). فهناك برنامج سبق الرب إعداده لنا، وإلا فلماذا نحن موجودون؟ ولماذا يبقينا يومًا بعد يوم، وسنة بعد الأخرى؟ لقد كانت الطبيبة نافعة لبيتها ونافعة أيضًا لمرضاها حتى آخر يوم من عمرها.
شيء مؤسف حقًا
إنه لمن المؤسف أن نقضي أيامنا بلا خطة وبلا هدف، كسفن تائهة، نتخبط في بحر هذه الحياة، وقد ينتابنا شعور بالحزن والأسى لسبب انعدام الهدف، وغياب الرؤية، وضياع القيمة والمعنى. قد نقنع أنفسنا بأهداف باطلة وتافهة، فيدور كل واحد في فَلَك ذاته متخِّذًا منها مركزًا، ويصبح هدفه في الحياة هو: الإشباع والإمتاع، وتحقيق الذات والرغبات، ناسيًا حقيقة هامة وهي: «مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا١٢: ٢٥).
قد يرى البعض أن الشهادات والدراسات هي الهدف الأسمى للحياة، أو أن: الأموال والممتلكات هي التي تعطي للحياة قيمة؛ ومع أن هذه الأمور قد تكون مشروعة، لكنها لا تصلح أن تكون هي الهدف الذي من أجله أوجدنا الله، فبدون عمل الله وتشكيله ومعرفة خطته يكون الإنسان: «مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ» (يعقوب١: ٨). أما الذي عَمل فيه وشَكله، ينطبق عليه القول: «ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِمًا سَالِمًا، لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ» (إشعياء٢٦: ٣).
وكم هو ملذ ومُطَمْئِن أن يتيقن المؤمن بالمسيح، مهما كان ضعيفًا، خطة الله في حياته. ويخضع لها قائلاً: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال٩: ٦). لذا ليتنا نسلم أنفسنا لله كالفخاري الأعظم ليشكِّلنا لنحيا القصد والخطة التي رسمها لنا. ومهما كانت طبيعة الكتلة الطينية هو قادر أن يصنع من كل منا إناءً للكرامة مقدَّسًا نافعًا ومستعدًا لكل عمل صالح.
قصة أخرى
لقد وجدت في قصة مارجريت التي ماتت وهي تبنج المرضى كي لا يشعروا بالألم، صدى قصة أخرى أعظم، مع فارق القياس. إنها قصة محبة الله للبشر، قصة الحب العجيب التي تجلّت في الصليب. لقد بيَّن الله محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رومية٥: ٨). «الْمَسِيح أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ» (١بطرس٣: ١٨).
رسالة مارجريت الأخيرة
هل أدركت معنى الحب الذي يحتمل الخطأ، والخطاة، الذي تحدثت عنه في آخر تعليق لها؟ لقد جاء المسيح إلينا نحن الخطاة الذين فعلنا الشر، وأحبنا وغض الطرف عن جهلنا، نزل إلينا، لكي يرفعنا ويُعطينا مكانًا معه حيث هو، وقالها واضحة: «قد أُكْمِلَ» (يوحنا١٩: ٣٠)، وسدَّد لعدالة الله حقوقها، ودفع أجرة الخطية بدلاً عنا، ولم يبقَ على الخاطئ الذي يريد أن يتبرر إلا قبول هذا العمل بالإيمان.
«بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ» (١يوحنا٣: ١٦). فإن لم نستطع أن نموت من أجل المسيح، فعلى الأقل أن نحيا ونعيش مُخلِصين لأجله.