وقعتْ أحداث هذه القصَّة منذ قرابة خمسة وثلاثين عامًا في بيت جَدِّي حيث وقعت أغلب أحداث حياتنا هناك. ما تزال ذكريات هذا البيت العتيق وأحاديث أمسيَّاته محفورةً في داخلي! هناك أمضيتُ سِنِي طفولتي الرائعة وسط الأهل الأعزَّاء الذين رحلَ منهم مَن رحل وأطالَ الله في عمرِ مَن بقيَ، كلًّا منهم ترك في نفسي بصمات عميقةً لم، ولن، تمحها الأيَّام. وما قصَّة اليوم إلَّا موقفٌ من عشرات المواقف التي شكَّلت شخصيَّتي.
ففي إحدى الليالي - ولم أكن تجاوزت العاشرة - ودون أن أُخبر أحدًا، خرجتُ من البيت قاصدةً البقَّالة القديمة المجاورة، حاملةً في جيبي عملة نقديَّة صغيرة من فئة خمسة قروش أو “شلن”. توجَّهت إلى البائع الذي كان رجلاً نحيلاً، أسمرَ البشرة، طاعنًا في السنِّ، يُدعى “عمّ عويس”. والذي كان بذكاء البائع المحنَّك يضع حلوى الأطفال في مقدِّمة المحلِّ، لا ليُغري الصغار في ذهابهم وإيابهم فقط، بل أيضًا لكي لا يكلِّف نفسه عناءَ القيام في كلِّ مرَّة يُسألُ عنها؛ فقد كان دائم الجلوس، لا يقوم إلَّا للضرورة القصوى. وبالفعل، طلبتُ إليه شراءَ واحدةٍ من حلوى الملبن المفضَّلة لديّ، فطلب أن أضعَ العملةَ التي معي وأتناول واحدة منها. ولكن في هذه اللحظة تحديدًا تذكَّرت أنَّ أختي الصغيرةَ لن تَدَعني أستمتع بها وحدي، وفي الحال ألقيتُ نظرةً على البائع، فوجدت رأسه على صدره يغطُّ في نومٍ عميق! وعندها مددتُ يدي، ودونِ تفكير، وضعْتُ “الشلن”، وأخذت قطعتَين من الحلوى ورجعت إلى بيت جدِّي تسوقني رائحة حلواي اللذيذة، وملمسها الناعم المحبَّب.
وفي قفزاتٍ سريعةٍ متلاحقة، صعدت درجات السلَّم الثمانية المتهالكة، وبكلِّ فخر فتحت يد أُختي الصغيرة ووضعت الحلوى فيها مع قبلة على جبينها. آه ما أروَعَني أختٌ لا تنسى أختها الصغيرة حتَّى في قطعة حلوى تأكلها! ثُمَّ جلستُ بلهفة المشتاق أتلذَّذ بحصَّتي من الحلوى الرائعة بينما ألعق أصابعي بعد كلِّ قضمة منها.
لا أدري كم من الوقت مرَّ عليَّ وأنا في حالة الانتشاء تلك. ولكن بينما كان طعم حلواي ورائحتها يعبِّقان فمي وأنفي ويدي، ابتدأ قلبي يضربني. “ما هذا الذي فعلتُه؟ كيف أسمحُ لنفسي بأن آخذ ما ليس من حقِّي؟” لم يلهِني عن صراعي هذا إلَّا زوج خالتي الذي طلب إليَّ أن أرافقَه في الذهاب لشراء أحد الأغراض.
حالما خرجنا إلى الشارع، ابتدأ في داخلي صراع جديد: هل أحكي له عن المصيبة التي ارتكبتُها؟ أم أنَّه سيغيِّر رأيه فيّ؟ أخيرًا، اتَّخذتُ قراري، وابتدأتُ بالفعل أحكي لغايةٍ واحدة: أن يريحني فيقول لي مثلًا: “إنَّها مشكلة البائع الذي لا ينتبه إلى بضاعته”، أو “عادةً ما يفعلُ الصغار ذلك”، أو أيَّ شيء من هذا القبيل.
بالفعل ابتدأت الحديث قائلة له: “لن تصدِّق ما رأيته اليوم! فبينما كنتُ أقفُ لأشتريَ من عمِّ عويس، أتت فتاة صغيرة وطلبت إليه قطعةً من الحلوى، ولمًّا وجدَته نائمًا، استغلَّتِ الفرصةَ فأخذت قطعتَين بدل واحدة. فما رأيك في هذه الطفلة؟”. وهنا حبستُ أنفاسي وثبَّتت عيناي على شيء واحد هو فمه، الذي سيُصدر الحكم على هذه الصغيرة التي لا يعلم - أو رُبَّما علِم - أنَّها أنا.
مرَّت ثوانٍ كانت كأنَّها الدهر، تسارعَتْ فيها ضربات قلبي، وتعرَّقت يدي في يده وأنا أشدُّ عليها بينما أنظر إليه كأنَّني أستحثُّه ليصدرَ حكمًا مخفَّفًا!
وإذ فتح فاه لم يبدأ بالكلام بل بإصدار صوتٍ أجشَّ ينمُّ عن رفضٍ شديد: “توء توء توء... دي بنت وِحشة خالص. عارفة إللي عملته ده اسمه إيه؟ لما حدِّ ياخد حاجة مش بتاعته ومش من حقّه، ده يبقي اسمه إيه؟ اسمه سرقة! وعارفة إللي بيسرقوا بيروحوا فين؟ بيروحوا النار”.
آه، لقد كان هذا الردُّ هو ما أخشاه تمامًا، ولكن في الوقت ذاته كان عين ما أتوقَّعه. لم أستطع النظر في عينَيه ولا للحظة واحدة، بل حنَيتُ رأسي محاولةً بصعوبة أن ابتلع ريقي، وكأن طعم الحلوى تحوَّل لحظتها في حلقي إلى مرار شديد، فتمتمتُ قائلةً له: “ما أنا قلت كده برضه!”. أعتقد أنَّه فهم في هذه اللحظة أنَّني أنا بطلة تلك القِصَّة الشائنة، لكنَّه لم يوجَّه إليَّ أيَّ لوم، كما لم يحاول التخفيف من الحكم الذي سبق وأصدره! عندها كنَّا قد وصلنا إلى المكان المطلوب. والأهمّ، أنَّ الله كان قد وصل إلى ما أراده منِّي. ظلَلْتُ صامتةً تمامًا طوال طريق العودة، لا أسمع سوى صدى صوته... “توء توء توء... بنت وِحشة... سرقة... النار...”.
حالَما رَجَعْنا، ركضتُ إلى أمِّي وأخذت منها عشرة قروش، وعدتُ مسرعةً إلى العمِّ عويس، فوضعت النقود وطلبْتُ قطعتَي حلوى، وكما توقَّعتُم، أخذتُ واحدة فقط، وعُدت إلى البيت هذه المرَّة أطير من الفرحة كطائرٍ قد فُكَّ أسره.
مرَّت أسابيع على هذه الواقعة. وفي أحد الأيَّام الدراسيَّة، دقَّ الجرس مُعلنًا ابتداء وقت الاستراحة، فتقدَّمتُ بلهفة الاطفال لفتح طعامي، وإذا بي أمام شطيرةٍ من نوع الجبن الوحيد الذي لا آكله. آه لقد نسيت أمي أنَّني لا آكل هذا النوع من الجبن. أو ربما اختلط عليها الأمر وهي تعدّ وجبات أطفالها الأربعة قبل التوجّه لعملها. آه، يا إلهي، ماذا أفعل؟ وبإيمان الأطفال رفعْتُ عيناي إلى الله مخبرةً إيَّاه بجوعي ورغبتي في رؤيته التدخَّل لسدّ هذا الجوع. لم أكملْ كلماتي القليلة إلَّا ووجدتُ خمسين قرشًا تحت قدميَّ تمامًا. كان مبلغًا كبيرًا حقًّا. على الأقل يشتري عشرة من حلوى العم عويس. ما هذا يا إلهي؟ هل أنا مهمَّةٌ لديك لتستجيبَ بهذه السرعة؟ لكن عندما تلامسَتْ يداي والعملة الورقيَّة، إذا بالمشاعر نفسها تنتابني من جديد، ومرَّة أخرى يضربني قلبي. وفي الحال ابتدأت - بكلِّ ما تبقَّى لي من طاقةٍ - أركضُ هنا وهناك لأسأل الأطفال الموجودين في ساحة المدرسة إنْ كان أحدهم قد أضاع أيَّ مبلغ من المال، إلى أنْ أجابني أحد الاولاد بأنَّ هذا المبلغ يخصُّه، وفي الحال سلَّمته إيَّاه. وإلى الآن لست أدري إنْ كان يخصُّه حقًّا أم لا! لكن ما أدريه حقًّا هو أنَّ المبدأ الذي زُرع قد بدأ يؤتي ثماره بغضِّ النظر عن مدى الاحتياج أو شدة الجوع.
لكن لماذا تذكَّرت هذه القصَّة اليوم؟
رٌبَّما لأنَّنا نواجَه اليوم أكثر من ذي قبل بقطع حلوى كثيرة مُبعثَرة هنا وهناك بينما يغُطُّ “العمّ عويس” في نوم عميق! ورغم مرور الأيَّام والسنين ما زال الصوت يصمُّ الآذان - لا صوت قريبي - بل صوت المعمدان: «لَا يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ» (متَّى١٤: ٤).
وإن كان صوت موسى - في عهد الناموس - أن لا يُحِلُّ لك التغاضي عن ثور أخيك وشاته وحماره وثيابه وكلِّ مفقودٍ له، بل تردَّه إليه لا محالة، فكم بالحري ونحن في عهد النعمة؟ هل يحلُّ لنا أن نأخذَ ما للقريب أو حتى نشتهيَه!
«وَلاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ وَلاَ كُلَّ مَا لِقَرِيبِكَ» (التثنية٥: ٢١).