قال أحدهم: إن الشعور بالملل مثل التحديق الفارغ في الفراغ. الملل لا يعني بالضرورة عدم القدرة على التركيز لكنه هو قلة الاهتمام أو فتور الشغف. من الأسباب الشائعة للملل؛ روتين الحياة اليومي وأداء المهام المتكررة بشكل رتيب يخلو من الإبداع أو الإثارة والتشويق بالإضافة إلى غياب وسائل الترفيه. مع أنني لاحظت أن هناك أشخاصًا اعتادوا على أسلوب حياة روتيني وحياتهم لا نصيب فيها لوسائل الترفيه المتاحة لدى كثيرين آخرين، ورغم ذلك قلَّما نراهم يشكون من حالة الضجر أو الشعور بالملل. دفعتني هذه الملاحظة أن أبحث في هذا الأمر لأعرف السبب الحقيقي لحالة التذمر والشكوى الدائمة من رتابة الحياة والشعور بالملل، خاصة بين المؤمنين. هل توجد أسباب أخرى تنتج هذا الشعور؟ والتي يسعى البعض للتخلص منه بوسائل دنيوية ومادية. في الحقيقة، وجدت أن هناك أسبابًا أولية تتفرع منها أسبابًا ثانوية. وهذه بعض الأسباب التي تولد شعورًا بالملل، أذكرها في ثنائيات إذ أن أحدهم يمثل السبب الأولي والثاني يعتبر نتيجة له. مثلاً: من دواعي الشعور بالملل هو الطبيعة الانطوائية والعزلة الاجتماعية كما يؤدي تكرار الفشل إلى الإحساس بخيبة الأمل وبالتبعية الشعور بالضجر والملل. لكن سأركز على ثنائيتين فقط أرى أنهما من أكبر أسباب الإحساس بالفراغ الداخلي وفقدان الشهية لكل مجالات الحياة بالنسبة للمسيحيين الحقيقيين.
١-غياب الهدف وغياب الشغف
إن لم يدرك الإنسان أنه موجود في هذه الحياة لهدف عظيم، موضوع وفقًا لخطة إلهية يستحق أن يحيا لأجله، يمكن أن يتحقق من خلال خيرات وبركات أو حرمانات وضيقات؛ فلن يجد لحياته طعمًا ولا معنى. الإنسان باعتباره كائنًا روحيًا مخلوقًا بحسب التصميم الإلهي أن يكون في علاقة مع الله. من الأقوال الشهيرة لأغسطينوس “يا رب لقد جبلتنا لذاتك ونفوسنا لا تجد راحتها إلا فيك”. هذه العلاقة تبدأ بقبول الرب يسوع مخلصًا شخصيًا بالإيمان، ثم التمتع بعلاقة شخصية مع الرب. هذه العلاقة المشبعة والممتعة هي التي تعطي للحياة بهجتها.
كما أن للمؤمن هدفًا يعيش لأجله وهو أن الرب يتمجد في حياته ويكون سبب بركة لمن حوله. هذا الهدف يزداد لمعانًا كلما عاش المؤمن قريبًا من الرب. هذا الهدف السامي يملأ القلب بالشغف المستمر أن يستثمر كل فرصة متاحة لإكرام سيده. هذا الهدف العظيم، وهذا الشغف المرتبط به، يجعلا المؤمن يرى الرب في المشهد دائمًا حتى إن اقتضت مشيئته بأي صورة من صور الحرمان. عندما نكون بالقرب من قلب الرب سنحبه، ونقبل كل شيء، واثقين أنه يعمل دومًا لخيرنا. لكن الخير لا يعني رفاهيتنا، لكن تحقيق الهدف الذي نحيا لأجله والذي يلهب قلوبنا بالشغف ويملئنا بالغيرة المقدسة أن نكرم ربنا في كل الظروف. وفي هذه الحالة نختبر نوعًا من الفرح السماوي العجيب الذي ينشئه فينا الروح القدس حتى لو نضبت ينابيع السعادة الأرضية. وهذا ما اختبره حبقوق «فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ (وسائل السعادة في الحياة)... فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي» (حبقوق٣: ١٧، ١٨).
٢- الفراغ الداخلي والهزال الروحي
الإنسان الجديد الذي فينا كمؤمنين (المخلوق حسب صورة الله) مصمَّم بإنه يجد راحة في اللذة المتبادلة بين الله والإنسان. إن كان هناك مؤمنًا حقيقيًا لم يتذوق حلاوة هذه الشركة الممتعة مع الله هذا فهذا ليس معناه أنها غير موجودة، لكن معناه أنه مسكين ويعيش دون مستوى الدعوة الإلهية المجيدة التي دعانا الرب إليها. ما أكثر المؤمنين الذين يعيشون على الفتات في هذه الأيام، لذلك يسعون أن يشبعوا احتياجات النفس الصارخة داخلهم من فسحة وخروجه أو عزومة، وجبة، هدية، علاقات، أصحاب، أو نشوة مستقاة من الشعور بالإنجاز، أو كلام المديح. كل ما سبق يسعد النفس إلى حين. يجب أن نتذكر أن المؤمن كائن روحي وليس فقط جسد ونفس، أرواحنا تحتاج أن تشبع وتستريح وهذا لن يتحقق إلا من خلال علاقة روحية حقيقية مع الرب. بدونها سيستمر الاحساس بنوع من الضجر وعدم الانسجام حتى تجاه الأنشطة والممارسات المسيحية.
الحرمان الاجباري الذي نختبره في هذه الأيام أليس هو نوعًا من الفطام؟ الرب يفطمنا عن أشياء تعلقنا بها، بدلاً ما نستخدمها ونسود عليها هي اللي امتلكتنا وسادت علينا. فطام عن استقاء النشوة من امتلاك الأشياء أو عمل الانجازات. الذي يبني سعادته على ممتلكات أو ممارسات أو علاقات، سرعان ما يشعر بالملل والفراغ والكآبة إن فقد شيئًا منها. أعتقد أن الجيل الأول من المؤمنين في العصر الرسولي لم يكونوا يعرفوا كل ما نعرفه ونفهمه من الحقائق في أيامنا التي زادت فيها مصادر المعرفة؛ رغم ذلك كانوا متمتعين بها ومتذوقين حلاوتها ومختبرين قوتها أكثر منا. كانوا يفرحوا وهم يسلبون ويطردون... يفرحون في الشركة مع الرب ومع المؤمنين. بولس في الإقامة الجبرية بروما يكتب إلى الفيلبيين «اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا» (فيلبي٤: ٤). ألا نبتغي هذه الحالة ونشتاق إليها؟ ألا نرنمها بلهفة وشوق قائلين: جوعني ليك واشبعني بيك... لذذني بحبك الغني وقدني لنورك السني... بحبه سباني بحبه رواني... متعني بجمالك ربي واشبع بحضورك قلبي... الخ
أعزائي الشباب: لنتذكر أن الرب يتجاوب مع أشواق القلب الحقيقية. كما يتدفق الماء من الجبال والقمم نحو الأودية كذلك تعزيات الله تتدفق نحو الذين اشتهوا التمتع به. «لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْسًا مُشْتَهِيَةً. Longing soul وَمَلأَ نَفْسًا جَائِعَةً خُبْزًا good things» (مزمور١٠٧: ٩).
أكبر مانعين للذة المسيحية الأول هو الاستهانة بقداسة الله. بمعنى وجود خطايا دائمة بدون توبة حقيقية والثاني هو التمركز حول الذات (الشفقة، الاعتداد، محبة، اثبات الذات).