«الْوِبَارُ طَائِفَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلكِنَّهَا تَضَعُ بُيُوتَهَا فِي الصَّخْر» (أمثال ٣٠: ٢٦).
«الصُّخُورُ مَلْجَأٌ لِلْوِبَارِ» (مزمور ١٠٤: ١٨).
تصلح هذه الحقيقة أن تكون وصفًا لحياة يوشيا الملك التقي
فإذ كان بعد فتى صغير، وضع يده في يد الله القدير، فكان له الحماية والأمان، بل القوة والشفاء كمعنى اسمه “يهوه يقوي - يهوه يشفي”.
في عمر الثامنة، استلم يوشيا المملكة ممزقة خربة بسبب كمّ الشر والدمار الذي أحدثه بها لا فقط أبوه أمون بل وجده منسى الذي أضلَّ الشعب. «أَضَلَّهُمْ مَنَسَّى لِيَعْمَلُوا مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنَ ٱلْأُمَمِ ٱلَّذِينَ طَرَدَهُمُ ٱلرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» (٢ملوك ٢١: ٩). بل والملوك الذين كانوا قبلهم أيضًا، والذين تمادوا في عبادة الآلهة الوثنية، حتى انتشرت في كل أرجاء مملكة يهوذا وإسرائيل، فيُقَال عن:
«يَهُورَامُ... طَوَّحَ يَهُوذَا» (٢أخبار٢١: ١١).
«آحَازَ...أَجْمَحَ يَهُوذَا» (٢أ أخبار٢٨: ١٩).
«فَأَبْعَدَ يَرُبْعَامُ إِسْرَائِيلَ مِنْ وَرَاءِ الرَّبِّ وَجَعَلَهُمْ يُخْطِئُونَ خَطِيَّةً عَظِيمَةً» (٢ملوك ١٧: ٢١).
لكن ابتدأ يوشيا البداية الصحيحة إذ طلب إله داود أبيه وهو بعد فتى في السادسة عشر من عمره. وفي السنة الثانية عشر من مُلكه، أي عندما كان في العشرين من عمره، ابتدأ يطهر يهوذا وأورشليم. فابتدأ اصلاحاته بهدم وكسر وقطع وحرق ودق وسحق وإبادة وإزالة وملاشاة كل ما ليس له علاقة بالله الحي وعبادته (٢ملوك٢٣، ٢أخبار٣٤).
أليس هذا ما قاله الحكيم: «لِلْهَدْمِ وَقْتٌ... وَلِلطَّرْحِ وَقْتٌ... لِلتَّمْزِيقِ وَقْتٌ... لِتَفْرِيقِ الْحِجَارَةِ وَقْتٌ... وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ!» (جامعة٣: ١-٧).
ثم في السنة الثامنة عشر من مُلكه ابتدأ بإصلاح وترميم بيت الرب. فأرسل شافان الكاتب إلى حلقيا الكاهن لهذا الغرض. ومن تاريخ إقامة الفصح في موعده في اليوم الرابع عشر من الشهر الأول للسنة الثامنة عشر من مُلكه، نفهم أن مدة ترميم البيت استغرقت حوالي أسبوعين، لكن حدث فيها حدثًا هائلًا (٢أخبار٣٤: ٨؛ ٣٥: ١، ١٩)! فلقد عاد شافان للملك «وَرَدَّ إِلَى الْمَلِكِ جَوَابًا قَائِلاً: كُلُّ مَا أُسْلِمَ لِيَدِ عَبِيدِكَ هُمْ يَفْعَلُونَهُ... وَأَخْبَرَ شَافَانُ الْكَاتِبُ الْمَلِكَ قَائِلاً: قَدْ أَعْطَانِي حِلْقِيَا الْكَاهِنُ سِفْرًا» (٢أخبار٣٤: ١٦، ١٨).
والسؤال هنا: ترى هل أدرك شافان الأثر الهائل للكتاب الذي كان يحمله بيده؟ لست أظن. وهذا يتضح من كلماته للملك، لقد أخبره عن تمام سير العمل في كل شيء، ثم وفي النهاية وكأنه يقول: “آه، وبالمناسبة وجدنا كتابًا - a book”! فربما لم يفهم شافان الكاتب وقتها أن هذا الكنز الذي يحمله ليس مجرد كتابًا، بل أنه “الكتاب”! إنه سفر الشريعة، والذي بمجرد أن قرأه شافان في مسامع الملك، مزق الملك ثيابه... ثم قام بإرسال شافان مع حلقيا وآخرين ليسألوا الرب عما سمع من كلام هذا الكتاب. فذهبوا إلى خلدة النبية «فَقَالَتْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: قُولُوا لِلرَّجُلِ الَّذِي أَرْسَلَكُمْ إِلَيَّ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ مِنْ جِهَةِ الْكَلاَمِ الَّذِي سَمِعْتَ... مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ قَلْبُكَ وَتَوَاضَعْتَ أَمَامَ الرَّبِّ حِينَ سَمِعْتَ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ دَهَشًا وَلَعْنَةً، وَمَزَّقْتَ ثِيَابَكَ وَبَكَيْتَ أَمَامِي. قَدْ سَمِعْتُ أَنَا أَيْضًا، يَقُولُ الرَّبُّ. لِذلِكَ هأَنَذَا أَضُمُّكَ إِلَى آبَائِكَ، فَتُضَمُّ إِلَى قَبْرِكَ بِسَلاَمٍ، وَلاَ تَرَى عَيْنَاكَ كُلَّ الشَّرِّ الَّذِي أَنَا جَالِبُهُ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ» (٢ملوك ٢٢: ١٥-٢٠). فما كان من الملك يوشيا إلا أن صعد هو وجميع الشعب إلى بيت الرب وقرأوا سفر الشريعة في مسامع جميع الشعب. وقطع الملك عهدًا مع الرب، وبالتبعية قطع الشعب هم أيضًا عهدًا مع الرب.
نعم، بمجرد أن سمع يوشيا كلمة الله، اتضع وتاب وأطاع الله عاملًا بكل ما تقتضيه كلمات هذه الشريعة، فكان سلام وأمان في أيامه. وفي الحقيقة إن طاعتنا للرب وكلمته هي صمام الأمان لحياتنا. وهي حقيقة بديهية جدًا.
«إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا فَلاَ تَأْمَنُوا» (أشعياء ٧: ٩).
لكن يلفت النظر معاني الأسماء في هذا الجزء،
فمعنى اسم شافان الكاتب الذي أرسله الملك هو: “الوبر أو الأرنب الصخري”.
ولقد بعث به الملك إلى حلقيا الكاهن ومعنى اسمه “يهوه حمايتي”، وهو الذي أعاده بسفر الشريعة إلى الملك يوشيا.
وكأن حلقيا الكاهن يرد جوابًا للملك ولشافان معه قائلًا: أنه لا حماية لك أيها الوبار الضعيف إلا بالاحتماء في صخر الدهور، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن تجد كلمة الله طريقها إلى حياتك! «كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ نَقِيَّةٌ. تُرْسٌ هُوَ لِلْمُحْتَمِينَ بِهِ» (أمثال ٣٠: ٥).
وأخيرًا، يعلق د. أوتري في كتابه “نهضات العهد القديم” على هذا الجزء قائلًا: “لو لم ينشغل يوشيا بترميم بيت الرب، لما وجد سفر الشريعة. الأمر الذي كان حدثًا أعظم من ترميم الهيكل نفسه! وكم من كنوز مخبوءة للأمناء يختبرونها وهم في طريقهم لتحقيق مشيئة الله، إذ قد يفاجئهم الله بإنجاز أعمال أعظم مما خطر لهم ببال.”
ثم يكمل عن هذه الحادثة فيقول: “ستبقى كلمة الله حتى لو فقدناها، فستجدنا هي وستصل إلينا حيث نحن وحيثما وصلنا في بُعدنا عنها. ولكن هل ستبقى الأجيال التي فقدتها؟”
ففي الحقيقة لم يكونوا هم الذين عثروا على كلمة الله، بل كلمة الله هي التي وجدتهم حيث كانوا في ضياعهم وفسادهم، فانتشلتهم. وهكذا لن تضيع كلمة الله أبدًا - فهي «كَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ» (١بطرس ١: ٢٣) - إنما ضاعت أجيال بكاملها وقت أن كانت كلمة الله مخبأة وسط ركام بيت الله!
وبالمثل يمكن تطبيق هذا الكلام على كل يوم فقدنا فيه صوت الله لنا من خلال كلمته. فلم تكن كلمته هي المفقودة، بل نحن، نحن من فقدنا البوصلة والاتجاه، وتهنا في طرقنا الجانبية الخاصة.
ترى هل وجدت كلمة الله طريقها إلينا أم أنها ما زالت مدفونة وسط الركام وتائهة وسط زحام كتبنا الكثيرة؟
هل نعود من جديد لنعطي كلمة الله حق قدرها، فيكون لها السلطان المطلق على حياتنا وبيوتنا؟
ترى ما الذي يحمله لفظ: “الكتاب” لذهنك اليوم؟!
(يُتبَع)