قصَّ مؤمن مسيحي على صديقه الفنان الصيني مَثَل الابن الضَّال (لوقا١٥: ١١-٣٢)، وطلب منه أن يرسم لوحة تُعبِّر عن هذا الابن. فاختار الفنان مقطع القصة الذي يُبيّن عودة الابن إلى أبيه، بعدما أضاع أموال أبيه في عيشة خليعة، وانغماس في فساد أخلاقي؛ فأظهر الأب واقفًا على الباب وهو ينتظر ابنه الآتي من بعيد.
وعندما عرض الفنان اللوحة على صديقه المسيحي، اعترض الصديق قائلاً: “آه.. لا.. هذا غير مقبول.. هناك خطأ جسيم في اللوحة!.. لم يقف الأب مكانه بحسب القصة؛ بل ركض مُتجهًا نحو ابنه!”
أجابه الفنان الصيني متعجبًا قائلاً: “إن الشرفاء لا يركضون! إن الركض للأولاد الصغار وللخُدَّام. أما الراشدون، فلا يركضون، ولا سيما ذوو الكرامة والاعتبار، بل يمشون برزانة بخُطَى بطيئة متمهلة.. ولا يوجد أي صيني واحد، يسمح لنفسه أن يفعل ذلك مع ابنه الذي أهانه!”
قال له المسيحي: “هنا العجب.. هذه القصة تُبيّن لنا قلب الله الذي هو أكثر رقة، وحنانًا، ومحبة، لجنسنا البشري، مقارنة مع أحسن وأفضل وأشرف أهل هذه الأرض!”
فها هُنا أبٌ ليس فقط مُستعدًا لأن يمنح قِسطًا من الرحمة لابنه الذي أهانه، مُقابل الوعد بسنوات عديدة من الخدمة الجديرة بالمكافأة، مع الأجرى (ع١٩)، بل هو أيضًا توَّاقٌ أن يغفر دون مُقابل، وبسخاء، وإلى التمام، عند أول علامة على التوبة فقط «وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ» (ع٢٠).
وواضح بجلاء أن الأب كان يترقَّب بلهفة عودة ابنه الضَّال. ويُمكننا أن نتصوَّره يستمر ينظر بثبات عبر الأفق، يوميًا، ومرارًا وتكرارًا، عسى أن يرى ابنه عائدًا. وظل يترقب يوميًا، مغموم القلب، لكن مُفعَمًا بالأمل في عودة ابنه، محتملاً في أعماقه الألم الذي لا يُطاق؛ ألم المحبة المتألمة لغياب ابنه، وأيضًا بسبب نوع الحياة التي انطلق الابن بعيدًا لينغمس فيها.
ولكن كيف أمكنه أن يرى الابن الراجع، إذ كان ما يزال بعيدًا؟! لا بد أنه قصد إلى أعلى نقطة في ممتلكاته – ربما إلى بُرجٍ أو سطحٍ – وقضى وقته الطويل الرتيب، مُستطلعًا الأُفق، مُصليًا لأجل عودة الفتى سالمًا، ومُفكِّرًا فيما سيجرى، وكيف ستكون الحال عندما يرجع الضَّالُّ، إذا رجع.
أما أن الأب كان مشتاقًا ومُفتقدًا ابنه، فهذا مؤكد. وعن كونه بالحقيقة تواقًا أن يُبادر بالمسامحة والمصالحة مع ابنه، فهذا لا شك فيه. وهكذا نقرأ عن الابن التائب الراجع: «وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ» (ع٢٠).
ويبدو أن الأب أراد أن يصل إلى الابن الراجع قبل أن يصل هذا إلى القرية، ليحميه - على ما يبدو - من سيول الهزء والذَّمِّ والتطاول التي كان لا بد أن ينالها، إذا سار عبر القرية، غير مُصالحٌ مع أبيه.
ولا شك أن مظهر هذا الضال كان في غاية التعاسة: إذ أكل معيشته مع الزواني (ع٣٠)، وعانى من تأثير الجوع الشديد (ع١٤). وخرج إلى الحقل ليرعى الخنازير (ع١٥)، ولا بد أنه أصبح مجرد كيان رث تافه! ومع ذلك فإن أبيه «تَحَنَّنَ» عليه! (ع٢٠).
وفي هذا المَثَل استطاع الرب يسوع أن يُصوِّر الله، لا كمن انتظر ابنه المذنب حتى يتسلل خلسة إلى البيت، ولا كمن حقَّر ابنه، وأشعره بأنه فقد كل كرامة واعتبار في نظره، بل صوَّره لنا مُتشوقًا لمغفرة خطايا كل ابن من أبنائه التائبين. وعندما كان الابن الضَّال مُقبلاً، رآه الأب، وتحنَّن عليه، وأسرع هو بنفسه للقائه، بدون أي معاتبة، بل عانقه وقبَّله، على الرغم من حالته المزرية في قذارته وأسماله البالية.
إننا لا نقرأ أن الضال ركض عندما قرَّر الرجوع لأبيه، فكل ما قيل عنه: «فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ» (ع٢٠). ولكنه قيل عن الأب أنه «رَكَضَ»! وهذه هي الآية الوحيدة في كل الكتاب التي تُظهر الله وهو في عجلة! في تجديد الخليقة نرى الله يعمل كل شيء بترتيب، أو يُمكننا أن نقول بتمهل. في كل شيء آخر عدا هذا الأمر، يظهر الله وهو يعمل بهدوء وتأني، كما يتناسب مع من له الأبدية كلها تحت إمرته. ولكن نجد هنا ما يمكن أن نطلق عليه “نفاذ صبر المحبة الإلهية”! والصورة توَّضح حقيقة كون الله مُبطئًا في الغضب، ومُسرعًا إلى الغفران. إذ إنه لا يُسّرُّ بموت الشرير، بل هو توَّاقٌ ومُتلهِّف، بل مبتهج أيضًا، أن يُخلِّص الخطاة.
«وَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ»، فهو ليس فقط “رآه” وهو ما زال بعيدًا، وليس فقط “تحنَّن” على هذا الضال التافه، وليس فقط “ركض” ليقابله، ولكنه «وَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ»! لقد عانقه وأحاطه بأذرع المحبة المُرحبة!
وأيضًا «قَبَّلَهُ». نُشير مرة أخرى أنه لم يُذكر أن الابن قبَّل أبيه. فالأب هو الذي يأخذ المبادرة في كل مرحلة! لقد «قَبَّلَهُ» وليس صدَّه. “قَبَّلَهُ” وليس طرده. “قَبَّلَهُ” ولم يُوبخه على تيهانه. يا لها من نعمة رائعة! كيف أن كل هذا يكشف قلب الآب! فالقُبلة تُكلّمنا عن المحبة، وعن المصالحة، وعن العلاقة الحميمة.
تأكد يا عزيزي، بأن الآب السماوي ينتظر بفارغ الصبر عودة الخاطئ بالتوبة، لكي يستقبله، ويغفر له خطيته. فإن كنت ما زلت بعيدًا عنه، اعترف له بخطيتك، وتعال إليه من جديد، تمامًا مثلما فعل الابن الضَّال، وستسمعه يقول لك: “حمد الله على السلامة! أهلاً وسهلاً بعودتك!”