نتحير كثيرًا بين ما قاله الرب يسوع في عظته على الجبل: «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تدانوا» وبين ما قاله الكتاب «فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا» (غلاطية٦: ١). فهل ندين الخطأ والمخطئ أم نُصلحه؟ أم الأفضل “كل واحد يخليه في نفسه”؟!
دعونا نقرأ ما قاله المسيح عن الإدانة في متى٧: ١-٥
خاف الرب على قلوب سامعيه المؤمنين من أنهم إذا نفّذوا كلامه وتحريضاته، التي تكلم عنها في هذه الموعظة، أن يشعروا بأنهم أفضل من غيرهم. وبالتالي يملأ الغرور قلوبهم ثم يتجهوا لإدانة الآخرين، فحذرهم في حديث مقتضب عن خطورة الإدانة.
أولاً: لماذا حذر الرب من إدانة بعضنا البعض؟
١. الإدانة شر بغيض، يركز فيها الشخص فقط على أخطاء الآخرين ويبحث عنها لإثبات تقصيرهم وإظهار أفضليته هو عليهم.
٢. إننا لا نعرف خفايا قلوب الآخرين «السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا وَالمُعْلنَاتُ لنَا» (تثنية٢٩:٢٩).
٣. الرب يريدنا ألا نتعالى على الآخرين وكأننا أفضل منهم مثل الفريسيين الذين وصفهم الرب بأنهم «وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ الآخرين» (لوقا١٨: ٩).
٤. غالبًا ما ترتبط الإدانة بالرياء، فالمرائي بارع في إخفاء شره بإدانته للآخرين؛ «لأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ الأُمُورَ بِعَيْنِهَا!» (رومية٢: ١). ألم يفعل ذلك داود وهو مخطئ، عندما تسرع بنطق حكم القتل، على ذلك الرجل الذي أخذ الشاة، فحكم بذلك على نفسه هو (٢صموئيل١٢: ٥-٧)!
ثانيًا: ما هي خطورة إدانة الآخرين؟
١. إدانة الآخرين تحمل في طياتها عدم توقير ومهابة للديّان الوحيد الذي له حق الإدانة، وهذا ما قاله يعقوب في رسالته «لاَ يَئِنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَيُّهَا الإِخْوَةُ لِئَلاَّ تُدَانُوا. هُوَذَا الدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ الْبَابِ» (يعقوب٥: ٩).
٢. لا ننسى أننا كمؤمنين سنقف جميعًا أمام كرسي المسيح لنقدِّم جميعنا حسابًا. وهذا يجعلني أمتنع عن إدانة الآخرين، بل بالعكس أمتلئ رحمة وشفقة بإخوتي فطوبى للرحماء لأنهم يُرحمون. وهذا ما أكده الرسول بولس بالقول «وَأَمَّا أَنْتَ فَلِمَاذَا تَدِينُ أَخَاكَ؟ أَوْ أَنْتَ أَيْضًا لِمَاذَا تَزْدَرِي بِأَخِيكَ؟ لأَنَّنَا جَمِيعًا سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ» (رومية١٤: ١٠).
٣. قال الرب يسوع «لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (متى٧: ٢). أي أننا أنفسنا سندان بذات مبدأ الإدانة للآخرين. حتى إن الرب ختم على هذا التعليم قائلاً: «فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ والأنبياء» (متى٧: ١٢).
ثالثًا: هل هذا يعنى ألا أقدم نصيحة للآخرين ولا سيما المخطئ؟
فارق كبير بين إدانة الآخرين لإثبات خطئهم والتشهير بهم، وبين محبتهم ومحاولة علاجهم.
١. كلمة الله تحرضنا كمؤمنين أن نهتم بالمخطئين لرد نفوسهم وعلاجهم لا لإدانتهم «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ» (غلاطية٦: ١). كما أنها تطوب أيضًا من ينقذ أخاه من الضلال «فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئًا عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ يُخَلِّصُ نَفْسًا مِنَ الْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا« (يعقوب٥: ٢٠).
٢. كلمة الله التي تحذِّرنا من إدانة الناس، هي بذاتها تعلمنا أنه هناك حُكم على الأخ المؤمن المخطئ من قِبَل الكنيسة، أي جماعة المؤمنين. ولكن هذا الحُكم على المخطئ لا بد أن يكون مصحوبًا بالمحبة «وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا بِالرِّسَالَةِ، فَسِمُوا هَذَا وَلاَ تُخَالِطُوهُ لِكَيْ يَخْجَلَ. وَلَكِنْ لاَ تَحْسِبُوهُ كَعَدُوٍّ، بَلْ أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ» (٢تسالونيكي٣: ١٤-١٥).
رابعًا: كيف أكون بركة وعلاج للآخرين؟
حتى أستطيع أن أكون بركة للآخرين يجب أن ألاحظ الآتي:
١. يجب أولاً أن ألاحظ نفسي، والحكم على أخطائي والتحفظ منها حتى أستطيع علاج غيري. هذا ما قاله الرب يسوع في عظة الجبل: «أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ» (متى٧: ٥).
٢. ما أروع أن يمتلئ القلب بالمحبة والدموع لأجل المخطئ، هذا ما كان يفعله الرسول بولس مع اخوته فلقد قال: «أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَارًا لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ» (أعمال٢٠: ٣١).
٣. «فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا» (غلاطية٦: ١). هذا هو الشرط الثالث لمن يستخدمه الرب في إصلاح اخوته، وليس إدانتهم، مؤمنًا روحيًا يتعامل مع اخوته بوداعة دون قسوة وتشفي، وأيضًا عارفًا نفسه أنه ليس في وضع أفضل بل أقل منهم.
إخوتي الأحباء؛ واحدة من الفضائل المسيحية الراقية هي عدم إدانة إخوتي، بل حتى في أخطائهم الترفق بهم والصلاة لأجلهم ومحاولة علاجهم باستخدام من الروح القدس بكل حب ووداعة. فهل أنا وأنت كذلك؟