وقفت ذات مرة أمام شلالات نياجرا، في كندا، وكان المطر يتساقط بغزارة، والبروق والرعود والغيوم الداكنة تُغطي السماء من ناحية الشرق، ولكن من ناحية الغرب كانت الشمس تشع مُشرقة، وفي وسط السماء
“قَوْسُ قُزَحَ” رائع مُمتد في السماء، لم أرَ مثيلاً له من قبل.
ولكوني أعرف ما يعنيه “قَوْسُ قُزَحَ” في الكتاب المقدس، فمن خلال ألوانه الخلابة، بدا لي وكأني أسمع صوت “الله الخالق” يهمس برسالة رحمته ومحبته، قائلاً إنه لن يدين بعد عصيان الأرض وتمردها، بطوفان جديد، ومن حق الخليقة كلها أن تبقى مطمئنة من جهة عدم حدوث طوفان ماء آخر، بناءً على ميثاق الله الأبدي،
وقَوْسُ قُزَحَ في السحاب علامة لذلك الميثاق!
وتخيَّلت نُوحًا وبنيه، بعدما خرجوا سالمين من الفُلْك، وسجدوا حول المذبح (تكوين٨: ١٨-٢٢)، وقد انتشرت السحب في السماء، وابتدأ المطر ينزل، وفي الحال سقط عليهم رعب، وخافوا من رجوع الطوفان مرة أخرى، وعادوا يتفكرون في عواصف وسيول السنة الماضية، عندما انفتحت طاقات السماء، لتسكب سيولاً على الأرض، فتعاظمت المياه، وتكاثرت جدًا على الأرض، حتى تغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء، فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض: الناس والبهائم وطيور السماء، وكل الزحافات، وبقي نُوح والذين معه في الفلك فقط (تكوين٧: ١٧-٢٤). وكان سؤالهم: هل سيعود الماضي؟! هل سيكون طُوفان مرة أخرى؟!
وكانت الإجابة: كلا. لقد ذكر الله نوحًا وبنيه، وذلك عندما اسودت السماء بالسحب الداكنة، وهطلت الأمطار،
فرتَّب أن انعكاس نور أشعة الشمس على قطرات الماء في الجو، يُحدِث قوسًا جميلاً في السماء، تتألق فيه أنوار روعة في الألوان؛ وهكذا يُرى قَوْس قُزَحَ أثناء هطول المطر، والشمس مُشرقة. ولقد جعل الله هذا القَوْس ختمًا وعلامة لميثاقه ووعده، ليُطمْئن نُوح ومَن معه، بل وليُطمْئن كل الخليقة، أنه لا يكون طوفان مرة أخرى ليُغرِق الأرض (تكوين٩: ١١-١٧).
والمعنى الروحي لذلك بالنسبة لنا، هو أن الله في الغضب يذكر الرحمة، وأن هناك رحمة مخزونة لنا في وقت الآلام والتجارب (حبقوق٣: ٢)؛ فعندما تُظلِم السماء بالسحب الداكنة السوداء، وتهب الأعاصير وتنزل الأمطار، وكلها تتكلَّم عن الآلام والتجارب التي قد يسمح لنا الرب باجتيازها، وقتئذٍ يُمكننا أن نرفع عيوننا نحو السماء، ونتذكر الله الصادق في مواعيده. وإن وجود المسيح عن يمين الله في الأعالي، لهو أعظم جدًا بالنسبة لنا من قَوْس قُزَح في السماء، فهو يؤكد لنا أنه قد عبرت عنا دينونة أكثر رعبًا، وأن “مخلّصنا وفادينا” ظاهرٌ أمام وجه الله لأجلنا، وسيتدخل في ظروفنا وتجاربنا – بطريقة ما – مُعطيًا لنا معونة وتشجيعًا، وليستخرج لنا خيرًا جزيلاً من وراء كل تجربة وألم، وهذا ما يملأ قلوبنا بالسلام والتعزية والتشجيع.
والأمر الذي يجلِب التعزية والتشجيع، أن الذي ينشر السحاب في السماء هو الله، والقوس التي وضعها الله في السحاب، لن تُرى ما لم يكن هناك مطر، فإذا كانت السحب والأمطار تُثير المخاوف، فإن القَوْس البديعة تُهدئ تلك المخاوف. وهو يُذكر أولاد الله أنه - ولو كان نصيبهم في هذا العالم الأحزان والأوجاع - فإن رحمته لم تزل نورًا يُشرق في وسط العواصف والأنواء. وعندما يظهر، ويتعامل مع سحب أحزاننا الأرضية، فإن طبيعته – تبارك اسمه – تُعلّن في جمال ونعمة لم يعرفهما أحد من قبل.
وما ألذ التأمل في وعد الله؛ فالله ينظر إلى القَوْس عند ظهورها في السحاب، ويستريح بحيث أن المسألة لم تُصبح متوقفة على الإنسان العاجز الضعيف الذاكرة، بل على الله الذي قال:
«فَيَكُونُ مَتَى أَنْشُرْ سَحَابًا عَلَى الأَرْضِ، وَتَظْهَرِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أَنِّي أَذْكُرُ مِيثَاقِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ. فَلاَ تَكُونُ أَيْضًا الْمِيَاهُ طُوفَانًا لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِي جَسَدٍ. فَمَتَى كَانَتِ الْقَوْسُ فِي السَّحَابِ، أُبْصِرُهَا لأَذْكُرَ مِيثَاقًا أَبَدِيًّا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي كُلِّ جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ» (تكوين٩: ١٤-١٦). وما أحلى معرفة ما يذكره الله، وما لا يذكره؛ إنه يذكر كل ما وعد به، أما خطايا شعبه فلا يذكرها (عبرانيين٨: ١٢؛ ١٠: ١٧).
وإذا كان
“قَوْسُ قُزَحَ” برونق ألوانه وروعة أنواره هو انعكاس نور أشعة الشمس على قطرات الماء في الجو
، فإننا نتعلَّم منه أن النور نفسه مُركب من سبعة ألوان تُمثل كمال وجمال مجد النور. ومكتوب:
«إِنَّ اللهَ نُورٌ» (١يوحنا١: ٥)، بل هو أبضًا
«أَبُو الأَنْوَارِ» (يعقوب١: ١٧)، وأيضًا
«كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ» (أفسس٥: ١٣)، وهكذا “محبة الله”؛ فإن الله في محبته رحيم، قدوس، عادل، أمين، قادر على كل شيء... وغير ذلك من الأوصاف الجليلة. وصفات الله هذه يُمكن أن نعتبرها نظير الألوان السبعة التي يتكون منها
“قَوْسُ قُزَحَ”. وكما أن جوهر النور يتكون من جميع الألوان معًا، فكذلك جميع صفات الله تجتمع في محبته.
وفي “قَوْسُ قُزَحَ” أيضًا نجد رمزًا جميلاً وإشارة هامة لصليب المسيح، فإنه متى انعكست أشعة الشمس على السحاب، الذي يوحي بالدينونة، يجد الإيمان راحة للقلب المُتعَب، وتسكينًا للضمير المنزعج، إذ نذكر المحبة العجيبة التي تبرهنت أيضًا في صليب المسيح، الذي يُحقق ويؤكد لنا العهد الأبدي الذي صنعه الله، ووعد به أولاده بالأمان والغفران والسلام إلى الأبد. وهذا فإن أشعة الشمس تزداد جمالاً بالسحاب الذي تنعكس عليه.
نعم، إن “
قَوْسُ قُزَحَ” الذي يظهر في السحاب يُذكّرنا بالجلجثة، حيث نُشاهد سحابة الدينونة الكثيفة فوق حَمَل الله المبارك، ومن حولها «ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ» (متى٢٧: ٤٥). ولكن تبارك اسم الرب، فوسط تلك السحابة الكثيفة، يرى المؤمن أيضًا أجمل قَوْس قُزَحَ، إذ يُعاين أشعة محبة الله الأبدية تخترق تلك الظلمة الدامسة، وتنعكس على كل سحب الدينونة، فيسمع - من خلال ذلك الظلام - القول المُبارك:
«قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا١٩: ٣٠)، وفيه إتمام مقاصد الله الأزلية، ليس من جهة المفديين فقط، بل من جهة كل الخليقة أيضًا.
أيها الأحباء: إن قَوْس قُزَح والصليب يتحدثان بهدوء عن محبة الله الفائقة، وعن رحمته ووعده للبشر بأنه لن يُنزِل غضبه على كل مَن يتخذ المسيح مُخلِّصًا شخصيًا له، مؤمنًا أنه حمل عبء خطايانا على خشبة العار، بل وينال أيضًا رضى الله، ويُشمّل أيضًا برحمته ونعمته.