من داخل قصره الفارِه يجلس أمام شاشة عملاقة تكشف له ما يحدث بالخارج، فهو يتابع عن كثب أحداث تلك الكرة المستديرة. ولكن هل دوره فقط المتابعة؟ هل يمسك بيديه “ريموت كنترول” ويتلاعب بأحداثها، أم يشاهد مكتوف الأيدي؟
ربما جال في خاطرك هذا المشهد يا عزيزي وبفطنتك عرفت مَن المقصود بالجالس، وما هي تلك الكرة، بل وبدأت تفكر أين هو الكونترول في مشهد الأرض المُثقلة تحت ثقل وباء، وما طبيعة سلطانه هذا؟
فكيف لمعلقة شاي من الكورونا أن تصيب
٥٤ مليون بشري في حين أن خليته أصغر بمليون مرة من خلية جسم الإنسان؛ فلإصابة هذا العدد من البشر يلزم
٣.
٣ مليار خلية من الفيروس، والتي تشغل حجم
٨ مليمترات مكعبة، فهي قريبة من حجم سائل في معلقة شاي صغيرة، وهذه بحسبة عالم الرياضيات الأسترالي “مات باركر”.
وكمثل أسئلة الاختيار من متعدد، دعنا نفكر: هل سبحانه مُتابع أم مُتداخل أم مُسيطر؟!
فلكونه الحي، أنت وأنا نجيب عن يقين أنه مُتابع «وَيَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ»
(١يوحنا
٣:
٢٠)، ليس فقط ما في عالمنا، بل ما في ضمائرنا، فهو بحسب قول حَنَّة «إِلهٌ عَلِيمٌ»
(١صموئيل
٢:
٣). ولك الحق إن سألت: إن كان يتابع ويرى صراخنا فلماذا لا يكون متداخلاً؟
وهنا دعني أشاركك أنه ليس منفصلاً وليس متداخلاً، ولكنه مُسيطر. فحاشاه من الانفصال عن خليقته، فلا يليق هذا بألوهيته «ففِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ»
(كولوسي
١:
١٦-
١٧). وأيضًا حاشاه من التداخل فقط، فهذا يعني أنه ليس البداية وليس الغاية كما يعلمنا الكتاب عنه «أَنَا... الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، الأَوَّلُ وَالآخِرُ»
(رؤيا
٢٢:
١٣).
إذاً هو ليس فقط مُتابع لكنه مُسيطر؛ فالرب «كُلَّ مَا شَاءَ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ، فِي الْبِحَارِ وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ
(أعماق المحيطات
)»
(مزمور
١٣٥:
٦). فكل حادثة تحدث في أي من الأماكن الأربعة السابق ذكرها ليست بالانفصال عنه؛ ففي قدرته أن يمنعها، إن شاء، ولكن لكونها تحدث هذا ليس من خلف ظهره بل بختم موافقته.
وهنا يظهر سؤال مُحيِّر: كيف لمحبته أن تختم بالموافقة، ولقدرته أن تستتر، وما هي طبيعة سلطانه إذاً؟!
عزيزي أشعر بحيرتك، ولست أمتلك الحكمة لأجابتك على عوائص مثل هذه، ولكن أشاركك بما تعلمته، لعله يساعد كلينا لنستوعب. ولكن قبل تعريف سلطان الله أذكّرك بما يعلّمه الكتاب عن طبيعة الله صاحب السلطان. فكما وصفها يوحنا هي ثلاثية الأبعاد - إن جاز لي أن أقول - «فاَللهُ رُوحٌ»
(يوحنا
٤:
٢٤)، و«اللهَ نُور»
(١يوحنا
١:
٥) «واللهَ مَحَبَّةٌ»
(١يوحنا
٤:
٨). فلكونه روح فهو يَحدّ كل شيء ولا يحده شيء، وهو حكيم يفكر. ولكونه نورًا فهو قدوس بار ويغضب. ولكونه محبة فهو مُنعم كثير الإحسان ويرحم.
فالله السلطان، من طبيعته هذه تخرج أوامره وتُختَم قراراته. وهنا أستطيع أن أضع تعريفًا لسلطان الله “فهو اللحن الصادر من سيمفونية طبيعة الله الحكيمة البارة المُحبّة”. فإن فهمنا أكثر عن طبيعة الله السلطان لن نتحير ونستغرب من طبيعة سلطان الله.
فليس لكونه اللامحدود نحصر سلطانه فقط في القدرة، فهل إن صمتت قدرته غاب سلطانه؟ فهذا اختزال لحكمته وربما لبره ومحبته.
ومعًا سنقف أمام حوادث يبدو فيها سلطان الله غامضًا، ولكن إن أمعنت النظر تجد الله السلطان فوق المشهد، ليس فقط متابعًا بل ومُسيطرًا أيضًا، حتى وإن صمتت حكمته واستترت قدرته في قصة يوسف في دوثان
(تكوين
٣٧)، حسب وصية أبيه جاء ينظر سلامة إخوته، فقرروا قتله، ثم خففوا العقوبة لرميه في البئر، وأخيرًا قرروا بيعه في غياب أخيهم رأوبين، وإلى مصر «بِيعَ يُوسُفُ عَبْدًا»
(مزمور
١٠٥:
١٧). فأين سلطانه هنا؟ لعلك تسأل ولماذا صمتت قدرته في إنقاذ يوسف؟
لك الحق في سؤالك عن القدرة في الإنقاذ، ولكني أراها مستترة وليست صامته؛ فمن جعل قلب رأوبين يحن ويقترح أن لا يقتلوه هل هو؟ قطعًا لا فإن عرفت تقرير يعقوب أبوه عنه
(تكوين
٤٩:
٣-
٤)، والذي بسببه لم يتفضل في المكانة عن إخوته، فهو كالماء الفائر غير منضب، فكيف له أن يضبط إخوته؛ أليست هي أصبع الله!
ثم هل صدفة أن تكون «الْبِئْرُ فَارِغَةً»
(تكوين
٣٧:
٢٤)؟ مع الأخذ في الاعتبار أنهم يرعون الغنم هناك، أي لا بد من وجود ماء؛ فمن ضبط إيقاع إفراغ البئر، هل تستبعد أن تكون أصبع الله؟!
ثم كيف لغابة الحيوانات هذه - أقصد إخوة يوسف حسب تقرير أبيهم في تكوين
٤٩ - أن ترق وتسمع ليهوذا ببيعه بــ
٢٠ من الفضة لقافلة الإسماعيليين النازلة إلى مصر؟
ولماذا لم يَرِقّ الذين في القافلة، وهم نسل إسماعيل عم يعقوب أبو يوسف، ويرجعوا الولد لأبيه أو حتى يخبروا بمكانه فهو ابن عمومتهم؟ ثم مَن حدد خط سيرهم من جلعاد لمصر؟!
عزيزي هل فكرت من قبل في هذا النوع من قدرة الله المستترة؟ مع العلم أن في دوثان، فيما بعد بمئات السنين، كانت القدرة غير مستترة عن عيني غلام أليشع، فرأى خيلاً ومركبات نار حول أليشع
(٢ملوك
٦:
١٧)، وهي جيش من الملائكة، واحدًا منهم كان كفيلاً أن يُنقذ يوسف من إخوته ويردّه سالمًا لحضن أبيه.
عزيزي.. لحن سلطان الله لا يُضبط بالقدرة فقط بل بالحكمة أيضًا، فالله له السلطان على كل الأزمنة كوصف نَبُوخَذْنَصَّرُ «الَّذِي سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ، وَمَلَكُوتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ
(من جيل لجيل
)»
(دانيال
٤:
٣٤)، فكان يرى المجاعة قادمة فقرر أن يجهز الحل قبل ما تبدأ بــ
٢٠ عامًا، فهكذا قال يوسف لإخوته: «لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ»
(تكوين
٤٥:
٥).
حتمًا يوسف قبل العرش لم يكن يفهم سلطان الله هكذا، ولكنه فهم فيما بعد، وكُتبت قصته لتعليمنا في مشهد الضباب والوباء هذا أنه يفعل ليس كل شيء بل فوق كل شيء فهو «َالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ»
(أفسس
٣:
٢٠).
فهل لك أن تثق في الله السلطان، وتقنع في طبيعة سلطانه الخارجة من قلب يعمل لخير البشرية حتى وإن كانت القدرة مستترة عن أعيننا؟
ثق أن زمام حكمته يسيطر وإن لم ترَ قدرته.
وإلى أن القاك في موقف آخر نستكمل فيه قراءتنا لسلطان الله.
(يُتبع)