أخذ الرب تلاميذه في جلسة خاصة حبية في العلية التي في أورشليم، ليكون في شركة معهم، ويتحدث إليهم بحديث جميل وشيّق، وذلك قبل محاكمته وصلبه مباشرة. لم يغِب عن عيني الرب ساعة آلامه التي بها سينتقل من هذا العالم إلى الآب، ونرى محبته العظيمة إلى خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى، إلى منتهى ما وصلنا إليه من بُعد وخراب وفشل وضعف، وهي محبة أزلية أبدية. محبة الرب لخاصته جعلته يحرص على نقاوتهم وطهارتهم، لذلك اهتم الرب أن يغسل أرجل تلاميذه قبل العشاء.
صنع الرب عشائين مع تلاميذه قبل الصليب مباشرة، العشاء الأول هو عشاء الفصح، وهو عيد يهودي سنوي، وكان حاضره يهوذا الإسخريوطي التلميذ الخائن؛ أما العشاء الثاني هو عشاء الرب، وهو عيد أسبوعي لمؤمني تدبير النعمة، ولم يحضره يهوذا الإسخريوطي.
قبل أن يذكر الروح القدس أن الرب يسوع غسل أرجل تلاميذه، يذكر لنا عظمة شخصه، فهو الابن الأزلي، لكنه ينحني ويعمل هذا العمل المبارك، لذلك يذكر أنه عالم بأربعة أمور:
١. «أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ» وهي ساعة موته. أي إنسان على الأرض لا يعلم ساعة موته، لكن المسيح يسوع كان يعلم ساعة موته.
٢. أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، فهو له السيادة والسلطان في السماء وعلى الأرض.
٣. «وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ»، أي عظمة المصدر الذي خرج منه.
٤. «وَإِلَى اللهِ يَمْضِي»، أي عظمة المرجع الذي يرجع إليه.
كان الرب يعلم أن غسل أرجل تلاميذه لا يتعارض مع العرش الذي كان ذاهبًا إليه.
صنع الرب ٧ أمور:
١. «قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ».
٢. «وَخَلَعَ ثِيَابَهُ».
٣. «وَأَخَذَ مِنْشَفَةً»
٤. «وَاتَّزَرَ بِهَا».
٥. «ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل».
٦. «وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ».
٧. «وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا».
كانت الصنادل هي الشائعة في ذلك الوقت في بلاد الشرق، وهذا جعل الأرجل تتسخ سريعًا، ولذلك وجب غسلها. وكانت خدمة غسل الأرجل شائعة في الزمان القديم (تكوين١٨؛ ١٩: ٢؛ ١صموئيل٢٥: ٤١؛ لوقا٧: ٤٤)، ولها فائدتان، أولاً: نظافة الرجلين، ثانيًا: خدمة إنعاش بعد تعب السفر.
كان من يقوم بغسل الأرجل هو أحد العبيد في البيت. وحيث أنه لم يوجد عبد في ذلك الوقت، فربما نظر كل تلميذ إلى الآخر، من يقوم بمهمة العبد؟ «كان بَيْنَهُمْ قبل ذلك مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ». لكن فوجئ التلاميذ بالرب يسوع، وهو السيد والمعلم، يقوم عن العشاء ويغسل أرجلهم. خدمة غسل الأرجل روحيًا هي خدمة عظيمة، لكن من يقوم بها لا بد أن يتصف بعدة صفات:
١. المحبة: فذُكر عن الرب أنه قد «أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى».
٢. الاتضاع: انحنى الرب عند رجلي كل تلميذ ليغسلهما.
٣. الحكمة: فيُحضر مياة دافئة، أي ليست مغلية أو باردة كالثلج، فالهدف هو غسل الأرجل وليس ألمهم أو وجعهم.
٤. يستخدم المنشفة، حتى لا تظل مبتلة، ولا تتسخ مرة أخرى، وهذا يُرينا كمال الخدمة.
كان الرب ينتقل من تلميذ إلى آخر ليغسل رجليه، إلى أن جَاءَ إِلَى «سِمْعَانَ بُطْرُسَ، فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!»، إنه سؤال استنكاري، كيف للسيد العظيم أن ينحني عند قدمي العبد؟ وكيف لابن الله الحي أن يفعل هذا مع إنسان خاطئ مثلي؟ قال بطرس ثلاث عبارات، والرب أجابه بثلاث إجابات، نتعلم منهم الكثير. «أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ»، أي أن هذا العمل له معنى روحي، وليس حرفي، ستفهمه فيما بعد، أي عند مجيء الروح القدس.
الأرجل تتكلم عن السلوك، والماء هنا رمز لكلمة الله (أفسس٥: ٢٦)، فنحتاج كمؤمنين، اغتسلنا مرة بدم المسيح، أن نغتسل يوميًا وباستمرار بماء الكلمة.
«قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا!» لم يستوعب بطرس كلام الرب له، وكان في هذه المرة بطيئًا في الفهم، وأصر على موقفه.
«فأَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ»، أي لا نصيب لك في الشركة معي، وهذا درس عظيم لنا، لكي نحرص أن نكون في حالة الطهارة المستمرة، وأن نغتسل بماء الكلمة دائمًا.
«قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَدَيَّ وَرَأْسِي» وهنا نجد اندفاع بطرس، وتحوله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا يرينا عدم نفع حكمتنا البشرية في الأمور الإلهية، ولا ننسى أننا مرات كثيرة نفعل مثل بطرس.
«قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ». أي الذي اغتسل مرة بدم المسيح، لا حاجة له إلا غسل رجليه بماء الكلمة، وذلك لأننا في عالم شرير، يرأسه إبليس، والأشرار من حولنا، وقد تتسخ آذاننا بسماع كلمات شريرة، أو رؤية مناظر غير مقدسة، لذلك لا بد من التطهير المستمر بماء الكلمة.
«وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ، لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ». كان كل التلاميذ مولودين من الله، ما عدا يهوذا الإسخريوطي، الذي أسلمه.
قال الرب عن التلاميذ إنهم طاهرين، بالرغم من أن أرجلهم كانت متسخة وتحتاج إلى الغسيل، وكأنه يقول لبطرس وللتلاميذ ولنا: إن القديسين الذين يحتاجون إلى غسل الرجلين هم طاهرين، فالذي يذهب ليغسل أرجل إخوته المتسخة، لا تنسى أنهم طاهرين، لكي يظل أخوك غالٍ عليك وعظيم في عينيك بالرغم من اتساخ رجليه.
السيد العظيم والرب القدير غسل أرجل تلاميذه، فينبغي لنا أن نغسل أرجل بعضنا بعض. ولم يقصد الرب المعنى الحرفي، كفريضة تُعمل، لكن بالمعنى الروحي، أن نهتم بإخوتنا، ونحرص على نقائهم وطهارتهم بماء الكلمة، ونقدمها لهم بحب.
كم نشكر الرب كثيرًا على كلمات بطرس التي قالها، وأيضًا اعتراضاته، لأنه من خلالها تعلمنا الكثير.
ليعطنا الرب أن نعيش حياة الطهارة المستمرة، والقداسة العملية، لكي نكون في شركة مستمرة مع الرب ونتمتع به، وأيضًا نتمثل بالرب بأن نغسل أرجل بعضنا البعض بمحبة واتضاع وحكمة.
وللحديث بقية أمين هلال