في يوم من أيام الحجر والحظر المفروض على البلاد والعباد، بسبب انتشار الوباء، كنا جالسين كعادتنا في صالة بيتنا. والحقيقة كان ذهني شاردًا وكنت مشتتًا، بين الكتاب والموبايل. وقتها استأذَنت زوجتي لتذهب إلى إحدى الغرف لتصلي. ولما أطالت الصلاة، أتعبت ضميري، فنويت أن أحذو حذوها، وأصلي في مكاني.
وما أن شرعت في الصلاة، إلا وذبابة منزلية، لا أعلم كيف دخلت، أخذت تطوف حولي فأزعجتني. قمت لأتخلص منها، فذهبت إلى “الحمّام” لأحضر شيئا “أهشها” به، فوجدت هناك ذبابة أخرى كبيرة كنت أظن أني قتلتها الليلة الماضية. قلت أتخلص من الصغيرة أولاً، ثم أعود للكبيرة. أخذُت وقتًا وأنا أركض هنا وهناك، محاولاً التخلص منها، تبعثرت خلالها بضع دقائق حتى قتلتها، أما الكبيرة فتخلصت منها بسهولة.
ثم جلست، وما أن شرعت في الصلاة إلا وقد واجهني هذه المرة لا ذبابًا، بل أسدًا! نعم أسد بكل ما تحمله الكلمة من معاني، صحيح. إن الذبابتين مرئيتان أما ذاك الأسد فهو غير مرئي؛ إنه رئيس سلطان الهواء ومعه أجناد الشر الروحية. هم في زئيرهم وتأثيرهم حقيقيون، وإن كانت لا تراهم العيون. وبالسلطان الممنوح لي كابن لله (يوحنا١: ١٢) قاومتهم (يعقوب٤: ٧) باسم الشخص الوحيد في الكون الذين يخافونه ويهابونه، لأنه غلبهم وسحقهم في الصليب.
بعدها بوقت صفا الجو وخلا لكي أسكب نفسي أمام الرب. فصرخت من أعماقي قائلاً: “أه يا سيدي ما الذي يحدث في العالم هذه الأيام؟ ولماذا سمحت حكمتك لهذا الفيروس ليصيب ويقتل مئات الألوف؛ لقد توقفت الحياة، فالشلل تام، المطارات أغلقت، والسياحة توقفت، الجامعات والمدارس تعطلت، الناس في فزع وذعر. وأنا يا رب الحقيقة كأني «مبنج» أو مُغيَّب، لا أعبأ بالمصائب حولي. أنا يا رب مثل يونان النائم في جوف السفينة، والناس على سطحها خائفون مضطربون وألهتهم يصرخون، فالبحر هائج والريح عاصف”.
بعدها سألت نفسي: «بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟» (يونان١: ٨). وعلى الفور أجبت: “بكل تأكيد بسببي أنا”. وفتشت في نفسي، في نور محضر الله الكاشف والفاحص، وأوقفت نفسي أمامي، كما يقف التلميذ أمام أستاذه، أو المتهم أمام قاضيه، وفحصتها لعلي أجد فيها شيئًا صالحًا. وسألتها: “أخبار القداسة عندك؟ تاخدي كام في مادة القداسة؟” وبدون أدنى مواربة أجبت: ”صفرًا”. “ومادة الأمانة؟” وبحزن قلت: “صفرًا”. والصدق: صفرًا، والحب صفرًا، وأمام هذه وغيرها كثرت وتعددت الأصفار. فانسحق قلبي، وانكسرت روحي، واتضعت نفسي ودنتها.
وبقلب مكسور وبعين دامعة، قلت: آه يا سيدي: إن «اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ» (يونان٢: ٨). لقد راعينا أباطيل كاذبة كثيرة، وتركنا نعمتك. لكن أعود الآن فليس لي إلاك، ولا أرتجي سواك، وحجتي نعمتك، فأعني لأتمم مشيئتك، فأنت المخلص وأنت الخلاص.
ورغم شعوري بضعفي الشديد، وانسحاقي الأكيد، وإذ بيد تسندني، وقوة ترفعني، وصوت حلو يشجعني، ويقول لي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (٢كورنثوس١٢: ٩). وكأن الرب يأمر حوتًا كان قد ابتلعني، فقذفني على البر، فعشت، وشكرت وفرحت ورنمت:
سيدي ماذا تريد اهدني حيث تريد
إنني لست أريد غير فعل ما تريد