السلطان وطبيعة سلطانه 2

رأينا في حديثنا السابق طبيعة الله السلطان، ووضعنا معًا تعريف لسلطانه “فهو اللحن الصادر من سيمفونية طبيعة الله الحكيمة، البارة والمُحبّة”. ووقفنا معًا في دوثان حيث قصة يوسف، وظاهريًا يبدو لا سلطان لله؛ لكن وصلنا ألا نختزل سلطانه في قدرته فقط، بل ننظر إلى حكمته أيضًا، فالله السلطان حكيم في إتخاذ القرار، وله سيادة تهيمن على الأحداث، مدفوعة بمحبته دون الانفصال عن بِره.

واليوم سنقف معًا أمام قصة تشبه كثيرًا يوسف، فهي أيضًا تحكي عن بيع بار ومن إخوته مع الفارق في السعر، فقد بيع صاحب القميص الملون بـ ٢٠ من الفضة، لكن وبعد مئات السنين بيع صاحب الأمجاد بثلاثين من الفضة (متى٢٦: ١٥). ويا للعجب، كان صاحب فكرة البيع اسمه أيضًا يهوذا. ورغم كل التشابهات هذه، يظل الشبه الأكبر في القصتين هو صمت القدرة الإلهية!!

فتعال معي نقترب أكثر لنفهم عن سلطان الله من خلال قصة صلب البار.

كان المشهد ضبابيًا لكل مَن يقرأه، فمنذ القبض عليه - وربما قبل ذلك - وحتى الصليب، تشعر أن القدرة الإلهية مستترة. وربما تتساءل كيف يترك الله مسيحه لهذا الكم من الكراهية والإساءة؟ فكثيرون يريدون له الأذى، ففريق «رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ» (لوقا٢٢: ٢)، لأنهم كانوا يغيرون من تأثير خدمته، حتى إنهم قالوا له في وقت سابق: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ وَمَنْ أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟» (متى٢١: ٢٣)، إذ كان - له المجد - «يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ» (متى٧: ٢٩)، فكان وجود خادم أمين مثله يهدد مكانتهم. وفي وقت لاحق فهِم بيلاطس كرههم له «لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا» (متى٢٧: ١٨).

وآخر لديه إرادة، وهو يهوذا الذي كَانَ «يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ» (لوقا٢٢: ٦). فلماذا يا يهوذا كل الحقد ناحية سيدك؟ فهناك في بيت لعازر انكشفت لمحات قلبك تجاه السيد حينما أكرمته مريم فقلت: «لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟» (يوحنا١٢: ٥) أكان جزاء مَن أسلمك الصندوق أن تسلّمه أنت؟ لا أستغرب قلبك الشرير ولكن حقًا أستغرب موقف الله القدير! كيف تسمح يا رب لقلب يهوذا أن يستقبل من الشيطان فكرة ضد مسيحك وكيف لم تمنعه من التنفيذ أيضًا!!

عزيزي هكذا تكون صرختنا لله كثيرًا كيف سمحت ولماذا لم تمنع؟! وهنا أشاركك بمعنى ثاني لسلطان الله.

فهو ليس منع الشر - وإن كان في قدرته فعل ذلك - ولكن أن يُخرج من الشر خيرًا.

فقديمًا أَتَى اللهُ إِلَى لاَبَانَ الأَرَامِيِّ فِي حُلْمِ اللَّيْلِ وَقَالَ لَهُ: «احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تُكَلِّمَ يَعْقُوبَ بِخَيْرٍ أَوْ شَرّ» (تكوين٣١: ٢٤). فهنا استخدم قدرته السيادية لمنع شر لابان عن يعقوب، أو حتى خيره، الذي هو بمقياس مشيئة الله هو أيضًا شر. ولكن هذا الأمر لا يستخدمه الله دائمًا لأنه أعطى إرادة للبشر ولن يقتحمها دائمًا، بل يوجهها لخير البشر. فلو منع دائمًا إرادتهم الشريرة لسقط في أمرين:

أولهما ليس له أن يحاسبهم، فكيف لمن ليس له إرادة أن يُحاسَب؟

وثانيهما أنه يكون قدم للشر دعاية مجانية للانتشار. ولتوضيح هذه النقطة سوف أشاركك بحدث ليس من بعيد، ففي أبريل ٢٠١٤، وبقرار سيادي من رئيس الوزراء المصري آن ذاك إبراهيم محلب، مُنع عرض فيلم من السينما لوجود إنتهاكات بداخله. وعلَّق على ذلك أحدهم إنه قرار غير حكيم لأنه صنع لهم أفضل دعاية مجانية، وبالفعل تهافت الجميع عليه، واستطاع صُنّاع الفيلم وبدعاية غير مقصودة من الجهات السيادية جمع مكاسب أكثر من المتوقع، وكل هذا فقط حينما قرر المسؤول المنع. فهل لله الحكيم أن يفعل للشر دعاية إن منعه؟ حاشاه يا صديقي أن يمنع إرادة البشر، حتى وإن كانت شريرة، مع كون قدرته تستطيع. ولكن يلمع سلطانه حينما يفعل الأشرار إرادتهم ونكتشف في النهاية أن مشيئة الله قد تمت والتي فيها خيرنا.

فسلطان الله في حادثة صليب المسيح لم يمنع إرادة البشر الشريرة المتمثلة في رؤساء الكهنة والكتبة، أو حتى يهوذا الخائن، فهم فعلوا إرادتهم بل أكثر من ذلك كان لهيرودس وبيلاطس طلبات حققوها أيضًا «وَأَمَّا هِيرُودُسُ... كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيل أَنْ يَرَاهُ» (لوقا٢٣: ٨)، ولكن حين رأه احتقره وأعاده إلى بيلاطس الذي بدوره أراد «فَنَادَاهُمْ... وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ» (لوقا٢٣: ٢٠)، ولكن لم يستطع، لأن الجمع كله كان يلجّوا بأصواتهم «فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْل (باراباس)، الَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ» (لوقا٢٣: ٢٤-٢٥).

لاحظ معي عزيزي عند الصليب كيف تجمعت طلباتهم ومشيئاتهم الشريرة، والتي كانت كلها تحت سلطان الشرير والذي قال عنه المسيح لحظة الإمساك به «وَلكِنَّ هذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ» (لوقا٢٢: ٥٣)، ظانين أجمعين أنهم فعلوا إرادتهم وصلبوه ومات البار.

ولكن قُبيل الدفن، ظهرت إرادة جميلة، لم يمنعها الله أيضًا، من يوسف الرامي الذي «تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ» (لوقا٢٣: ٥٢)، ليُوضَع في قبر جديد لتَتمّ نبوة اشعياء «وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» (إشعياء٥٣: ٩).

وهنا أيضًا فعل الرامي إرادته كما فعلوا هم أيضًا، ولكن ما أبعد الفارق بين هولاء الأشرار وذلك التقي البار. ومعها بدأت تلمح معي مَنْ هو المُخرِج للمشهد فحقًا هي «الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ... لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ» (١كورنثوس٢: ٧-٨)، وإن صمتت قدرته حتى القيامة (أفسس١: ١٩-٢٠)، فكان هذا ليتم مشروع الخلاص.

فعند الصليب علت أصواتهم ظانين أنهم يفعلون ما في إرادتهم وصَمَتَ الله ولم يمنع إرادتهم، وفي النهاية فعل السلطان، بحكمة، إرادته هو. وهذا ما فهمه التلاميذ فيما بعد في صلاتهم «لأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ اجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ... هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ، لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ» (أعمال٤: ٢٧-٢٨).

عزيزي إن كان الله في سلطانه العظيم لم يمنع شرهم، لكن تأكد أن شرهم مهما تعَاظَمَ لا يمنع مقاصده فهو يسيطر ويدير قَائِلاً: «رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي» (إشعياء٤٦: ١٠)، فلنطمئن ونرنم مع مَنْ قال “كل الخيوط في يدك” فهو بإتقان يحسبها.

وإلى أن القاك في قراءةٍ أخرى في سلطان الله.

(يُتبع)