بعد أن تعرفنا على وسيلتين من وسائل الإيضاح التي استعملهما المسيح المُعلَّم؛ وهما الخِبرة والطبيعة، نُلقي نظرة على الوسيلة الثالثة، والتي أجاد بها المسيح شرح تعاليمه العويصة، وذاعت شهرة هذه الوسيلة.
ثالثًا: الأمثال
ولأن المجال لا يتسع لدراسة كل أمثال المسيح، ولا حتى المرور العابر عليها؛ فقد قضى كثير من رجال الله حياتهم في دراستها ولم يوفوها حقها، لهذا فسأكتفي بالتأمل في نقطتين فيهما الكثير من الإبداع.
التميُّز في الأمثال
فمن يقرأ الأناجيل الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا)، يلاحظ وجود بعض الأمثال في بعضها واختفائها في البعض الآخر، ولهذا حكمة جليلة، حسب الهدف الإلهي من كل إنجيل. ولضيق المساحة سأكتفي فقط بالمقارنة بين إنجيلين فيهما.
إنجيل لوقا:
فمثلاً من يقرأ إنجيل لوقا بتمعن، يلاحظ وجود ٩ أمثال لا توجد في غيره من الأناجيل، كما تظهر في الجدول الآتي:
الإصحاح
| المثل
| ردًا على
|
١٠
| السامري الصالح
| الناموسي الذي سأله: من هو قريبي؟
|
١١
| صديق نصف الليل
| طلب التلاميذ أن يعلمهم الصلاة
|
١٢
| الغني الغبي
| طلب واحد أن يجبر أخيه أن يقاسمه الميراث
|
١٣
| التينة غير المثمرة
| خبر ذبح بيلاطس للجليليين
|
١٥
| الدرهم المفقود والابن الضال
| اتهام الفريسيين للمسيح أنه يقبل ويأكل مع خطاة
|
١٦
| الغني ولعازر
| من يحتقرون أسفار موسى والأنبياء
|
١٨
| قاضي الظلم
| احتياج تلاميذه لللجاجة في الصلاة
|
١٨
| الفريسي والعشار
| أناس واثقين ببرهم ويحتقرون الآخرين
|
والسبب أن إنجيل لوقا هو إنجيل نعمة الله، ولهذا فقد تعرض فيه المسيح لمواقف مهاجمة كثيرة من الكتبة والفريسيين بسبب حبه للخطاة، وإنصافه للمُعدمين والفقراء والمهمَّشين، ولهذا كان يرد المسيح على المقاومين له بأمثال رائعة، تظهر قلب الله الواسع، واستجابته للتضرعات، وأن المقاييس عنده ليس كما يراها الناس على الأرض.
إنجيل يوحنا:
أما إنجيل يوحنا فيخلو من ذكر أي مثل للمسيح؛ وهذا يُثبت من جانب صحة الوحي المُقدس، لأنه لو كان تأليفًا بشريًا من تلميذ المسيح يوحنا، لأقحم فيه بعض أمثال المسيح ليشبه متى ومرقس ولوقا، وخلو إنجيل يوحنا من الأمثال يثبت لنا الحقيقة الراسخة «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (٢بطرس١: ٢١).
وهذا أيضًا يتفق مع طبيعة إنجيل يوحنا، لأنه يتكلم عن المسيح كابن الله، وليس كالخادم (إنجيل لوقا) أو ابن الإنسان (إنجيل مرقس) أو ابن داود (إنجيل متى)، ولهذا يهتم إنجيل يوحنا أكثر بأحاديث المسيح الفردية، وخاصةً عن الله أبيه، وكذلك وصاياه لتلاميذه، وينفرد ببعض الأحداث التي لا تذكرها باقي الأناجيل مثل لقاء السامرية (يوحنا٤) ومريض بيت حسدا (يوحنا٥)، والمولود أعمى (يوحنا٩)، والتي تُظهر قوة هذا الابن الكلمة الذي صار جسدًا وحل بيننا.
ما أبدعك أيها المسيح المُعلم.. تكلمت عن كل شيء في أمثالك، بدءًا من الخميرة حتى اللؤلؤة، ومن الصياد حتى الزارع، ومن استثمار الغني حتى معاناة لعازر.. وفي كل مثل وصلت لهدفك وتكلمت عن مبادئ ملكوت الله أبيك، وأظهرت مدى مهارتك وسمو تعاليمك.
ثانيًا الأهداف من الأمثال:
والأمر لا يتعلق فقط بكم الأمثال التي قالها المسيح، ولا باختلاف توزيعها في الأناجيل، لكن أيضًا باختلاف الدرس المراد منها حسب اختلاف جمهور السامعين له، وحسب حالتهم الروحية حينها.
ومثالاً لهذا، هو مثل الخروف الضال، الذي قاله المسيح لجمهورين مختلفين، واستنتج من ذات المثل درسين مختلفين.
الدرس في متى (ابحثوا عن الضال):
فمرة سأل المسيح تلاميذه: «مَاذَا تَظُنُّونَ؟»، وهي عادة رائعة منه لجذب انتباههم لكلامه القادم. ثم قال: «إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا، أَفَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ عَلَى الْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ الضَّالَّ؟ وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الَّتِي لَمْ تَضِلَّ» (متى١٨: ١٢، ١٣).
والدرس المراد هنا، أن الله يريد خلاص كل إنسان، ويبحث عن الضال حتى يجده، ولا يقول أبدًا إن عندي تسعة وتسعين سأكتفي بهم، وهكذا يجب أن يكون تلاميذه، ولذا قال المسيح لهم بعدها: «هكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ» (متى١٨: ١٤)، فهناك أهمية لئلا يتسبب أي تلميذ، في أن يُعرقل طريق الخلاص أمام أي إنسان.
الدرس في لوقا (افرحوا برجوع الضال):
أما في لوقا نقرأ «وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ! فَكَلَّمَهُمْ بِهذَا الْمَثَلِ قِائِلاً: أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِدًا مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحًا، وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ!» (لوقا١٥: ٣-٦).
فهنا يقول المسيح ذات المثل؛ الخروف الضال، ولكن في ظروف مختلفة (بسبب لوم الكتبة والفريسيون على المسيح أنه يقبل خطاة ويأكل منهم)، ولجمهور مختلف (الفريسين الأشرار وليس التلاميذ الأحباء)، ولهذا فقد استخرج المسيح درسًا مختلفًا عما استخرجه من ذات المثل الذي ورد في متى١٨.
فعلق المسيح: «إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا١٥: ٧). فإن كان الفريسيين يفرحون برجوع خروف ضال عنهم، ويقيمون الولائم للأصدقاء، فالسماء وساكنها الله تفرح أيضًا برجوع إنسان خاطئ إليها، وكيف يرى المسيح السماء تفرح ولا يشاركها هذا الفرح؟!!
يا لك من مُعلِّم مميز أيها المسيح الإنسان.. أثبت كفاءتك ليس فقط في تعاليمك الجديدة والمُبهرة والشاملة، ولكن أيضًا في مهارتك في استخدام وسائل الإيضاح لتوصيلها.. فوصلت للكبير والصغير.. للجاهل والمتعلم.. لليهودي والأممي.. للتلميذ والفريسي.. في زمن ليس فيه كمبيوتر أو أفلام تسجيلية أو رسومات توضيحية.