الأمر المُحير والذي يُسبب صدمة للكثيرين، هو لماذا تبدو المسيحية طريقًا وعرًا مليئَا بالمتاعب والأشواك؟ ولماذا نرى الأشرار في حالة من اليُسر وطريقهم مليء بالمسرات والملذات؟ هذا تمامًا ما وصفه ربنا يسوع المسيح في عظة الجبل شارحًا الفارق بين طريقين وبابين!
أولًا: لماذا استخدم الرب هنا “الباب” و“الطريق”؟
١. الحياة بصفة عامة هي طريق يمشيه الإنسان من ولادته حتى مماته، وكل منا يأخذ تَوجُّه وأسلوب حياة له بداية، وهذا هو الباب، أي المدخل لهذا الطريق الذي اخترته.
٢. الحياة المسيحية هي دخول إلى دائرة جديدة مع المسيح، لذا في البداية هي اختبار وخطوة عملية، تبدأ من القرار الأول للمقابلة مع المسيح الذي هو الباب. وكل مَنْ عَرف المسيح أخذ هذه الخطوة كما يقول ربنا يسوع: «أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ» (يوحنا٩:١٠).
ثانيًا: ماذا يقصد المسيح من التحذير من الباب الواسع والطريق الرحب؟
١. الباب الواسع تعبير عن اتجاه القلب نحو الحياة التي يختارها إنسان ما، حيث يُمكنه العيش دون ضابط أو رابط. يسير في طريق ومعه كل شهواته، يفعل ما أراد ويقول ما شاء ويصطحب فيه من راق له، سواء كانت هيروديا زوجة أخيه كهيرودس أو يقتل البريء يوحنا لأجل عشيقته!
٢. الطريق الرحب هو أسلوب الحياة التي لا تجد فيه ممنوعات، أي غير مُقيَّدة بتعاليم أو مُلتزمة بأي قيم أخلاقية. ستجد اللافتات مرفوعة“افعل ما يحسن في عينيك”! وهذا ما يُمجده العالم اليوم ويُعظم مَنْ يعيش هذا التحرر، بل ويكرمه أيضًا. ولقد وصف الحكيم سليمان هذا الطريق بالقول: «وَلْيَسُرَّكَ قَلْبُكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ وَاسْلُكْ فِي طَرِيقِ قَلْبِكَ وَبِمَرْأَى عَيْنَيْكَ» (جامعة٩:١١). ولقد وصفه أيوب أيضًا قائلًا: «يَحْمِلُونَ الدُّفَّ وَالْعُودَ وَيُطْرِبُونَ بِصَوْتِ الْمِزْمَارِ. يَقْضُونَ أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ. فِي لَحْظَةٍ يَهْبِطُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. فَيَقُولُونَ لِلَّهِ: ابْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرُّ» (أيوب١٢:٢١-١٤).
وكان تحذير الرب يسوع واضحًا من هذا الرحب والواسع لأنه يؤدي إلى الهلاك والضياع، حتى لو سار فيه الملايين.
ثالثًا: ماذا قصد المسيح“بالباب الضيق” و”الطريق الكرب”؟
هو أسلوب حياة تُعاش عكس تيار الشر والإباحية العالمية، لكنه يكلّف صاحبه تضحيات ومتاعب لأنه يسير ضد التيار! وأرجو أن ننتبه إلى أن المسيح لا يتكلم عن ثمن الدخول للسماء لكن يَصّف متاعب الطريق في الرحلة إلى السماء.
١. أوضَح الرب لتابعيه، في صدق، متاعب تبعيتهم له عندما قال: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متى٢٤:١٦).
٢. الباب الضيق تصوير لمتطلبات وشروط بداية السير في الطريق وراء الرب. فمثلًا لا تبعية للرب دون أن يكون هناك أولًا توبة عن الخطية والتخلي عن شرور العالم. فكان لا بد لمتى العشار أن يترك كل شيءٍ أولًا، وللسامرية أن تتخلى عن علاقاتها الدنسة. وما أروع ما قاله السيد: «وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (لوقا٢٤:١٦).
٣. أما الطريق الكرب فيحدثنا عن تكلفة تبعية المسيح، فيوسف الطاهر يُلقى في السجن ودانيآل الأمين في جُب الأسود. لكن شكرًا للرب، الأول تَشَدد من صخر إسرائيل والثاني أرسل الله الملاك وسد أفواه الأسود فلم تضره.
٤. لكن الرائع، رغم كَرب الطريق، لكنه يمتلئ بالتعزيزات والأفراح «طُوبَى لِأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ... عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعًا» (مزمور٥:٨٤-٦). هذا تمامًا عكس الطريق الواسع الذي وصفه الكتاب بالقول: «تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ الَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ» (مزمور٤:١٦).
رابعًا: كثيرون وقليلون
١. لا تتحير إن رأيت الكثيرين في الطريق الواسع؛ فهو مُلذ للجسد وشهواته، فهو لا يهوى إلا حياة المجون! فلا تظن يا صديقي أن الأغلبية تدل على الصواب. ولا تتعجب إن رأيت الأقلية وراء المسيح في الطريق الضيق. معظم المرات كانت الأغلبية على خطأ وسأذكر لك مثالًا واحدًا: الجواسيس الاثنا عشر الذين أرسلهم موسى (سفر العدد١٣) رجعوا فريقين، الأغلبية منهم قالوا: لا نقدر أن نمتلك الأرض وكانوا خطأ، أما الأقلية منهم كانوا اثنين فقط، يشوع وكالب، قالوا: نصعد لأننا قادرون عليها وكان رأيهم صوابًا.
٢. التاريخ أثبت لنا أن تابعي الرب كانوا قليلين، فمثلاً في مملكة بابل الآلاف والربوات سجدوا لتمثال الذهب بينما ثلاثة فتية أتقياء فقط لم يسجدوا، لأنهم كانوا للرب. لكن أرجو أن نلاحظ أن تابعي الرب، وإن بدوا عددًا قليلًا، لكن الحقيقة هم كثيرين غير ظاهرين، وهذا ما قاله الرب لإيليا عندما ظن أنه وحده للرب: «وَقَدْ أَبْقَيْتُ فِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ آلاَفٍ، كُلَّ الرُّكَبِ الَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ «(١ملوك١٨:١٩).
خامساً: نهايتان حتميتان
النهاية الأولى قال عنها الرب يسوع: «وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ» (متى١٣:٧). لقد قال الرب مرة «كُلُّ مُبْغِضِيَّ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ» (أمثال٨: ٣٦)، إنها النهاية الحتمية لطريق الشر والشهوات بعيدًا عن خلاص المسيح. ولقد وصف آساف نهاية رواد الطريق الرحب قائلاً: «كيف صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! اضْمَحَلُّوا فَنُوا مِنَ الدَّوَاهي» (مزمور١٩:٧٣).
أما النهاية الثانية قال عنها المسيح: «مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ» (متى١٤:٧). وما أروع السير مع المسيح في هذا الدرب، ففي المسيح كانت الحياة ومعه تحلو الحياة، هنا في عيشة هنية وهناك في بيت الآب.
إن نصيحة الرب يسوع لي ولك هي «ادْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ»؛ أي اختر المسيح ليكن مُخلصًا وفاديًا لك، واختر طريق السير معه في رحلة البرية للسماء. لا تنخدع يا صديقي ببريق وشهوات الطريق الرحب الذي دَمَّر كثيرين. وإن لم تصدقني، تأمل نهاية من انبهروا وانزلقوا في الطريق الرحب كيف قتلتهم الخطية «لأَنَّهَا طَرَحَتْ كَثِيرِينَ جَرْحَى وَكُلُّ قَتْلاَهَا أَقْوِيَاءُ» (أمثال٢٦:٧). بل اختر الحياة لكي تحيا.