«مِنْ هذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ:“أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟” فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ:“يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ”» (يوحنا ٦: ٦٦-٦٩).
فى إنجيل متى ١٥، نَفَرَ كثيرون من الفريسيين من تعاليم الرب وأظهروا امتعاضهم: «حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ:“أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقَوْلَ نَفَرُوا؟” فَأَجَابَ وَقَالَ:“كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ”». (متى ١٥: ١٣-١٤).
وهذا هو حال الإنسان الذي لا يقبل الحق، فقد أضاء الرب بكلماته في ظلام قلبهم الدامس فاضحًا تدينهم الظاهري بتقديس وصايا الناس وتعاليم البشر، في الوقت الذي وقف قلبهم البارد بعيدًا كل البعد عن الرب. وكان إكرامهم للرب محض شفاه تتكلم فقط، وليست بحال حالة قلب متعبد.
قبلما نقل التلاميذ إلى السيد ردود الأفعال، كان هو عالمًا بكل شيء؛ فليس ما لا يعلمه إذ أن أمامه خفيات القلوب. قال عنه كاتب المزمور: «أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ» (مزمور ١٣٩: ٢-٣).
وأجاب الرب إجابة شافية مانعة؛ فهم عميان يقودون عميان. ويا للمصير التعس؛ يسقطون في حفرة.
أما في يوحنا ٦: ٦٦ فالوضع مختلف إذ يقول الكاتب «مِنْ هذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إلى الْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ» وهذا يثير العجب، إن يرجع تلاميذ من وراء الرب. فما هي أسباب الرجوع وما السبيل إلى تجنبها؟
أما أسباب الرجوع فنلخصها فى ثلاثة أسباب:
١. محبة العالم
٢. محبة المال
٣. النظر إلى الوراء
ولنرى معًا ما حدث تفصيليًا في حياة هؤلاء.
محبة العالم
يتسرب العالم ببطء إلى حياتنا، ثم ما يلبث أن يتملك. والمثال من كلمة الله ديماس، الذي قال عنه بولس في ٢تيموثاوس ٤: ١٠ «لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي.» كان ديماس عاملًا مع بولس (فليمون ١: ٢٤)، يقول الرسول بولس: «وَمَرْقُسُ، وَأَرِسْتَرْخُسُ، وَدِيمَاسُ، وَلُوقَا الْعَامِلُونَ مَعِي»، ثم بدا العالم يتسرب إليه، فيقول عنه بولس مرة أخرى في كولوسي ٤: ١٤ «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ لُوقَا الطَّبِيبُ الْحَبِيبُ، وَدِيمَاسُ.» وهنا نرى ديماس موجود لكنه لا يعمل!! ثم في مرحلة أخيرة يقول «تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ». يا لها من خسارة فادحة أن نرجع من وراء الرب ومن خدمته لنخدم العالم مجددًا. فلنتحذر!
محبة المال
وسطوة المال لا تقل عن سطوة العالم. وفي مشهد أخر يسطره الروح القدس، في مرقس ١٠، هذا الشاب الغني الذي أتى إلى يسوع وسأل بإخلاص وأجابه الرب بحب. ويسطر الكتاب أن يسوع أحبه!
«فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ:“يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ”. فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ» (مرقس ١٠: ٢١-٢٢). لقد مضى مغتمًا ولم ينعم بالخلاص بسبب محبته للمال. ألا يمثل المال عائقًا في تبعيتنا للرب؟ ألا يذهب الكثيرون وراء محبة المال في رحلة البعد عن تبعية السيد بكل القلب؟ ألا تأخذ الممتلكات والمال وقتًا وجهدًا من طاقاتنا التي ينبغى أن تكرس أولًا للرب؟ ليتنا نراقب طرقنا وتوجهاتنا.
النظر إلى الوراء
والمثال على ذلك، امرأة لوط، التي سجل الكتاب قصتها في تكوين ١٩. فقد أشفق الرب على لوط الساكن في سدوم، وأراد أن يخرجه، فأرسل ملاكين لهذه المهمة. وبعد مجهود مضنٍ، نجح الملاكان في إقناع لوط وزوجته وابنتيه بالخروج من أرض سيدينها الرب بحريق النار، وأمرا إياهم أن لا ينظروا إلى الوراء، بل يثبتوا أنظارهم إلى الأمام حيث النجاة، فلا ترجع قلوبهم من وراء الرب. لكن امرأة لوط، المنغمسة في سدوم، رجعت بقلبها وعينيها للمدينة المهيئة للهلاك، فيقول الكتاب «وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ» (تكوين ١٩: ٢٦). ويعود الروح القدس ويذكِّرنا بفم السيد بهذا في لوقا ١٧: ٣٢ «اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ!». ويعود فينهض الرب ذاكرتنا بالقول «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ» (لوقا ٩: ٦٢).
يا أصدقائي فلنتحذر من هذه الثلاثة: محبة العالم – محبة المال – النظر إلى الوراء.
ولا سبيل لنا للوقاية إلا كلمة الله والصلاة وشركة القديسين.