تعلّمت القيادة (السواقة يعني) على“كَبر”؛ لأسباب كثيرة، وإذ بي أصطدم ليس فقط بعشوائية الناس ولا بتجاهل القانون (كله ينفع)، لكني اصطدمت بعقلي التحليلي الذي يراقب ويرصد (شغال على طول)، وقررت بدلاً من التذمر والتوتر (مفيش فايدة)، أن ألتقط بعض هذه الظواهر وأُخرِج منها بعض الدروس، لفائدتي أولاً ولفائدة قارئي العزيز ثانيًا (عزيز بجد).
علامة الانتظار
من أهم النصائح التي تذكرتها من صديقي الذي علمني قيادة السيارة، هي أهمية علامة الانتظار، فبعد أن شرح لي الغيارات والسرعات والمرايات وخلافه، قال لي الآتي: إن تعثرت في أي مكان، أو قابلتك أي مشكلة، اضغط على زر الانتظار (ذو علامة التعجب)، وتوقف أينما كنت، وفي هذه الحالة سيفهم من يأتي ورائك، إما أنك تتعلم القيادة حديثًا، أو أن عُطلاً ما أصاب سيارتك. فرحت جدًا بهذه النصيحة، لأنها تخلصني من أي إحراج، وتعتبر مخرجًا مناسبًا من المشاكل التي ستقابلني حتمًا.
وبالفعل أخذت السيارة، بدون زوجتي وابني (لتفادي الخسائر)، وإذ بي أدخل شارع ضيق، فاضطررت أن أجرب نصيحة صديقي، فأوقفت السيارة، وأغلقت الزجاج، وضغطت على زر الانتظار، واتكأت ظهري وأنا أسمع الترانيم، وكأن شيئا لم يكن.
وكأن طوفان جرى حولي (تعبير بلاغي)، فإذ بكل السيارات التي تمر من جانبي تكيل لي اللعنات الصعبة والنظرات الأصعب، وكنت أستغرب رد فعلهم فموقفي سليم قانونيًا، فأنا أعطي علامة انتظار، ومنتظر بالفعل.
حتى أتت سيارة نقل ركاب (وما أدراك بحديدها)، فتركت علامة خارجية بالسيارة وعلامة داخلية بي، فنزلت صارخًا (بلا فائدة طبعًا)، ثم رجعت لمنزلي في منتهى الغضب، وأنا ناقم على عدم احترام الناس لقانون الانتظار الذي فعَّلته.
وبعد هدوء وتفكير عميقين، اكتشفت أن الخطأ لم يكن منهم، ولم يكن في علامة الانتظار نفسها، لكن كان في أنني انتظرت في المكان الخطأ وبالطريقة الخطأ.
وعندما جُلت بذهني في الكتاب المقدس، وجدت كثيرين غيري فعلوا نفس الخطأ المزدوج، وهذا سَبب لهم مشاكل أكبر وأخطر بكثير.
الانتظار في المكان الخطأ
تدهور سريع، ذلك الذي حدث للوط؛ فبعد أن كان لقبه هو“السائر مع أبرام”، ومكانه هو خيمة أبرام المتنقلة؛ حيث الشركة مع الله والتمتع بوعوده، انفصل لوط عن عمه، ورفض اختيارات إله عمه، فنقرأ «فَرَفَعَ لُوطٌ عَيْنَيْهِ وَرَأَى كُلَّ دَائِرَةِ الأُرْدُنِّ أَنَّ جَمِيعَهَا سَقْيٌ، ورَوحَن لوط اختياره للمكان الخطأ بغلاف روحي وكتابي (كعادة المتدينين الشكليين)، فوصف سدوم وعمورة أنها «كَجَنَّةِ الرَّبِّ كَأَرْضِ مِصْرَ فَاخْتَارَ لُوطٌ لِنَفْسِهِ... وَكَانَ أَهْلُ سَدُومَ أَشْرَارًا وَخُطَاةً لَدَى الرَّبِّ جِدًّا» (تكوين ١٣: ١٠-١٣).
ورغم أن كل الدلائل كانت تؤكد أن لوطًا في المكان الخطأ، وكان يعيش قصة عذاب يومية، وصفها الرسول بطرس «إِذْ كَانَ الْبَارُّ، بِالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ، يُعَذِّبُ يَوْمًا فَيَوْمًا نَفْسَهُ الْبَارَّةَ بِالأَفْعَالِ الأَثِيمَة» (٢بطرس ٢: ٨)، إلا أننا نقرأ عن لوط «فَجَاءَ الْمَلاَكَانِ إِلَى سَدُومَ مَسَاءً، وَكَانَ لُوطٌ جَالِسًا فِي بَابِ سَدُومَ» (تكوين ١٩: ١).
فلوط المُعذَّب كان يجلس في باب مدينة سدوم؛ وهو مكان قضاة المدينة الذين يحكمون بين الناس، ولا أعلم ماذا كان ينتظر لوط هناك؟ هل كان ينتظر أهل سدوم الفُجار أن يأتوا إليه طالبين مشورة أو حُكمًا، وهم من شذوا عن قوانين الطبيعة، ورفضوا كل نواميس الله؟ هل كان ينتظر ترقية أو إكرامًا من أهل سدوم له، وهم من يحتقرونه ويستهزئون بقصة وصوله لهم، وقالوا عنه بعد ذلك «جَاءَ هذَا الإِنْسَانُ لِيَتَغَرَّبَ، وَهُوَ يَحْكُمُ حُكْمًا. الآنَ نَفْعَلُ بِكَ شَرًّا ...» (تكوين ١٩: ٩)؟ أم كان لوط ينتظر زيارة إلهية مثلما فعل الرب مع عمه إبراهيم، وأن يشاركه الله في بعض الأسرار التي تخص سدوم؟! فيا له من انتظار خاطئ.
وهكذا يفعل كثير من المؤمنين، حين ينتظرون أمورًا قد تكون جيدة وهم في المكان الخطأ، بل ويلومون الله على إحباط طموحاتهم وإخماد أحلامهم، غير مُدركين أن الخطأ ليس عند الله، ولكن الخطأ في مكان انتظارهم هم، وعليهم أن يصوبوا مسارهم الروحي أولاً، قبل انتظار أي شيء جيد ثانيًا، فتتم الكلمات «إِنْ رَجَعْتَ إِلَى الْقَدِيرِ تُبْنَى. إِنْ أَبْعَدْتَ ظُلْمًا مِنْ خَيْمَتِكَ ... لأَنَّكَ حِينَئِذٍ تَتَلَذَّذُ بِالْقَدِيرِ وَتَرْفَعُ إِلَى اللهِ وَجْهَكَ، تُصَلِّي لَهُ فَيَسْتَمِعُ لَكَ، وَنُذُورُكَ تُوفِيهَا» (أيوب ٢٢: ٢٣-٢٧).
الانتظار بالطريقة الخطأ
موقف غريب، ذلك الذي حدث مع يونان النبي، وهو الكارز الأنجح رقميًا؛ فبعد أن أعطاه الله فرصة ثانية وأرسله إلى مدينة نينوى، نجح يونان (بنعمة الله) أن يربح «أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً (١٢٠ ألف) مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ» (يونان ٤: ١١).
ولكن العجيب، أنه بعد هذا النجاح الرهيب، لم يرجع يونان بالشكر والعِرفان لله، ولا حتى بدأ في تعليم هؤلاء الجهلة وصايا وطرق الله، ولكننا نقرأ «وَخَرَجَ يُونَانُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَصَنَعَ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ مَظَلَّةً وَجَلَسَ تَحْتَهَا فِي الظِّلِّ، حَتَّى يَرَى مَاذَا يَحْدُثُ فِي الْمَدِينَةِ» (يونان٤: ٥).
فيونان انتظر أن يرجع الله في كلامه، لكي يثبت صحة تصوره هو، ولا يهمه أن يُخرِّب الله المدينة بأهلها التائبين للتو، ولا أن يهلك آلاف البُسطاء، ولا حتى أن تُعطل صفات الله الرحيمة وتُلغى أهدافه الجليلة، وهذا بالطبع لم ولن يحدث فـ«مَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ فَيَكُونَ وَالرَّبُّ لَمْ يَأْمُرْ؟» (مراثي إرميا ٣: ٣٧).
وهنا درس هام لنا، فكثيرًا ما انتظرنا الله بالطريقة الخطأ، بلا أي خضوع له أو اعتراف بسيادته، فننتظر خطتنا نحن وليس خطته هو؛ مقاصدنا نحن وليس مقاصده هو، ونحزن كثيرًا عندما لا يُتمم الرب ما نريده منه، ونشك إما في قدرته أو في محبته، وكأننا نتقدم بطلب لله، ونريد تأشيرته بنعم فقط، بدون إبداء أي رأي له، وبدون أن نكتب الديباجة الرسمية المعتادة: والأمر مفوض لسيادتكم لاتخاذ اللازم. فيا له من انتظار خائب.